Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 85-85)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يخاطب الحق جل جلاله اليهود ليفضحهم لأنهم طبقوا من التوراة ما كان على هواهم … ولم يطبقوا ما لم يعجبهم ويقول لهم : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 85 ] . إنه يذكرهم بأنهم وافقوا على الميثاق وأقروه . ولقد نزلت هذه الآية عندما زنت امرأة يهودية وأرادوا ألا يقيموا عليها الحد بالرجم … فقالوا نذهب إلى محمد ظانين أنه سيعفيهم من الحد الموجود في كتابهم … أو أنه لا يعلم ما في كتابهم … فلما ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم هذا الحكم موجود عندكم في التوراة … قالوا عندنا في التوراة أن نلطخ وجه الزاني والزانية بالقذارة ونطوف به على الناس … قال لهم رسول الله لا … عندكم آية الرجم موجودة في التوراة فانصرفوا … فكأنهم حين يحسبون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخفف حداً من حدود الله … يذهبون إليه ليستفتوه . والحق سبحانه وتعالى يقول : { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] … أي بعد أن أخذ عليكم الميثاق ألا تفعلوا … تقتلون أنفسكم … يقتل بعضكم بعضاً ، أو أن من قتل سَيُقْتَلُ . فكأنه هو الذي قتل نفسه … والحق سبحانه قال : { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] … لماذا جاء بكلمة هؤلاء هذه ؟ لإنها إشارة للتنبيه لكي نلتف إلى الحكم . وقوله تعالى : { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 85 ] وحذرهم بقوله : { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } [ البقرة : 84 ] … وجاء هذا في الميثاق … ما هو الحكم الذي يريد الحق تبارك وتعالى أن يلفتنا إليه ؟ نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة انتقل من دار شرك إلى دار إيمان … ومعنى دار إيمان أن هناك مؤمنين سبقوا … فهناك مَنْ آمن مِنْ أهل المدينة … لقد هاجر المسلمون قبل ذلك إلى الحبشة ولكنها كانت هجرة إلى دار أمن وليست دار إيمان … ولكن حين حدثت بيعة العقبة وجاء جماعة من المدينة وعاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به … أرسل معهم الرسول مصعب بن عمير ليعلمهم دينهم … وجاءت هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام على خميرة إيمانية موجودة … لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أفسد على اليهود خطة حياتهم … فاليهود كانوا ممثلين في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة … وكان هناك في المدينة الأوس والخزرج … وبينهما حروب دائمة قبل أن يأتي الإسلام … فاليهود قسموا أنفسهم إلى قوم مع الأوس وقوم مع الخزرج حتى يضمنوا استمرار العداوة … فكلما هدأ القتال أهاجوا أحد المعسكرين على الآخر ليعود القتال من جديد . . وهم كذلك حتى الآن وهذه طبيعتهم . إن الذي صنع الشيوعية يهودي ، والذي صنع الرأسمالية يهودي … والذي يحرك العداوة بين المعسكرين يهودي … وكان بنو النضير وبنو قينقاع مع الخزرج وبنو قريظة مع الأوس … فإذا اشتبك الأوس والخزرج كان مع كل منهم حلفاؤه من اليهود . عندما تنتهي المعركة ماذا كان يحدث ؟ إن المأسورين من بني النضير وبني قينقاع يقوم بنو قريظة بالمساعدة في فك أسرهم … مع أنهم هم المتسببون في هذا الأسر … فإذا إنتصرت الأوس وأخذوا أسرى من الخرج ومن حلفائهم اليهود … يأتي اليهود ويعملون على إطلاق سراح الأسرى اليهود … لأن عندهم نصاً أنه إذا وجد أسير من بني إسرائيل فلابد من فك أسره . والحق سبحانه وتعالى يقول لهم إن أعمالكم في أن يحارب بعضكم بعضاً وأن تسفكوا دماءكم … لا تتفق مع الميثاق الذي أخذه الله عليكم بل هي مصالح دنيوية … تقتلون أنفسكم والله نهاكم عن هذا : { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 85 ] والله نهاكم عن هذا : { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } [ البقرة : 85 ] … وهذا ما كان يحدث في المدينة في الحروب بين الأوس والخزرج كما بَيَّنا … والأسارى جمع أسير وهي على غير قياسها ، لأن القياس فيها أسرى … ولذلك نرى في آية أخرى أنه يأتي قول الله سبحانه وتعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأنفال : 67 ] . ولكن القرآن أتى بها أسارى … واللغة أحياناً تأتي على غير ما يقتضيه قياسها لتلفتك إلى معنى من المعاني … فكسلان تجمع كسالى … والكسلان هو هابط الحركة … الأسير أيضاً أنت قيدت حركته … فكأن جمع أسير على أسارى إشارة إلى تقييد الحركة … القرآن الكريم جاء بأسارى وأسرى … ولكنه حين استخدم أسارى أراد أن يلفتنا إلى تقييد الحركة مثل كسالى … ومعنى وجود الأسرى أن حرباً وقعت … لحرب تقتضي الالتقاء والالتحام … ويكون كل واحد منهم يريد أن يقتل عدوه . كلمة الأسر هذه أخذت من أجل تهدئة سعار اللقاء … فكأن الله أراد أن يحمي القوم من شراسة نفوسهم وقت الحرب فقال لهم استأسروهم … لا تقتلوهم إلا إذا كنتم مضطرين للقتل … ولكن خذوهم أسرى وفي هذا مصلحة لكم لأنكم ستأخذون منهم الفدية … وهذا تشريع من ضمن تشريعات الرحمة … لأنه لو لم يكن الأسر مباحاً … لكان لابد إذا التقى مقاتلان أن يقتل أحدهما الآخر … لذلك يقال خذه أسيراً إلا إذا كان وجوده خطراً على حياتك . وقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } [ البقرة : 85 ] . . كانت على طائفة من اليهود مع حليفتها من الأوس أو الخزرج … وكانت تخرج المغلوب من ديارهم وتأخذ الديار … وبعد أن تنتهي الحرب يفادوهم … أي يأخذون منهم الفدية ليعيدوا إليهم ديارهم وأولادهم . لماذا يقسم اليهود أنفسهم هذه القسمة … إنها ليست تقسيمة إيمانية ولكنها تقسيمة مصلحة دنيوية … لماذا ؟ لأنه ليس من المعقول وأنتم أهل كتاب … ثم تقسمون أنفسكم قسما مع الأوس وقسماً مع الخزرج … ويكون بينكم إثم وعدوان . وقوله تعالى : { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ البقرة : 85 ] … تظاهرون عليهم . أي تعاونون عليهم وأنتم أهل دين واحد : " بالإثم " … والإثم هو الشيء الخبيث الذي يستحي منه الناس : " والعدوان " … أي التعدي بشراسة … وقوله تعالى : { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } [ البقرة : 85 ] … أي تخرجونهم من ديارهم وتأخذوا الفدية لترجعوها إليهم . ثم يقول الله تبارك وتعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 85 ] … أي تأخذون القضية على أساس المصلحة الدنيوية … وتقسمون أنفسكم مع الأوس أو الخزرج … تفعلون ذلك وأنتم مؤمنون بإله ورسول وكتاب … مستحيل أن يكون دينكم أو نبيكم قد أمركم بهذا . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ البقرة : 85 ] أي إنكم فعلتم ذلك وخالفتم لتصلوا إلى مجد دنيوي ولكنكم لم تصلوا إليه … سيصيبكم الله بخزي في الدنيا … أي أن الجزاء لن يتأخر إلى الآخرة بل سيأتيكم خزي وهو الهوان والذل في الدنيا … وماذا في الآخرة ؟ يقول الله تعالى : { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ } [ البقرة : 85 ] الخزي في الدنيا أصابهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين … وأخرج بنو قينقاع من ديارهم في المدينة … كذلك ذُبِحَ بنو قريظة بعد أن خانوا العهد وخانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين … وهكذا لا يؤخر الله سبحانه وتعالى جزاء بعض الذنوب إلى الآخرة … وجزاء الظلم في الدنيا لا يؤجل إلى الآخرة ، لأن المظلوم لابد أن يرى مصرع ظالميه حتى يعتدل نظام الكون … ويعرف الناس أن الله موجود وأنه سبحانه لكل ظالم بالمرصاد … اليهود أتاهم خزي الدنيا سريعاً : { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ } [ البقرة : 85 ] . قد يتساءل الناس ألا يكفيهم الخزي في الدنيا عن عذاب الآخرة ؟ نقول لا … لأن الخزي لم ينلهم في الدنيا حداً … ولم يكن نتيجة إقامة حدود الله عليهم … فالخزي حين ينال الإنسان كحد من حدود الله يعفيه من عذاب الآخرة … فالذي سرق وقطعت يده والذي زنا ورجم … هؤلاء نالهم عذاب من حدود الله فلا يحاسبون في الآخرة . . أما الظالمون فالأمر يختلف … لذلك فإننا نجد أُناسا من الذين ارتكبوا إثماً في الدنيا يلحون على إقامة الحد عليهم لينجوا من عذاب الآخرة … مع أنه لم يرهم أحد أو يعلم بهم أحد أو يشهد عليهم أحد … حتى لا يأتي واحد ليقول : لماذا لا يعفي الظالمون الذين أصابهم خزي في الدنيا من عذاب الآخرة ؟ نقول إنهم في خزي الدنيا لم يحاسبوا عن جرائمهم … أصابهم ضر وعذاب … ولكن أشد العذاب ينتظرهم في الآخرة … وما أهون عذاب الدنيا الذي هو بقدرة البشر عن عذاب الآخرة الذي هو بقدرة الله سبحانه وتعالى ، كما أن هذه الدنيا تنتهي فيها حياة الإنسان بالموت ، أما الآخرة فلا موت فيها بل خلود في العذاب . ثم يقول الحق جل جلاله : { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 85 ] … أي لا تحسب أن الله سبحانه وتعالى يغفل عن شيء في كونه فهو لا تأخذه سِنَةٌ ولا نَوْمٌ … وهو بكل شيء محيط .