Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 105-105)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تكلمنا عن يسألونك في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ … } [ البقرة : 219 ] . والسؤال استفهام يعني : طلب فَهْم يحتاج إلى جواب ، والسؤال إما أن يكون من جاهل لعالم ، كالتلميذ يسأل أستاذه ليعلم الجواب ، أو : من عالم لجاهل ، كالأستاذ يسأل تلميذه ليعرف مكانته من العلم وإقراره بما يعلم . وهذه المسألة حَلَّتْ لنا إشكالاً كان المستشرقون يُوغلون فيه ، يقولون : بينما الحق - تبارك وتعالى - يقول : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] يقول في آية أخرى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] فالأولى تنفي السؤال ، والثانية تُثبته لذلك اتهموا القرآن بالتضارب بين آياته . وهؤلاء معذورون ، فليست لديهم المَلَكة العربية لفَهْم الأداء القرآني ، وبيان هذه الإشكال أن السؤال يرِدُ في اللغة إمَّا لتعلمَ ما جهلتَ ، وإما لتقرير المجيب بما تعلم أنت ليكون حجة عليه . فالحق سبحانه حين يقول : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] أي : سؤالَ إقرار ، لا سؤالَ استفهام ، فحين ينفي السؤال ينفي سؤال العلم من جهة المتكلم ، وحين يثبت السؤال فهو سؤال التقرير . والحدث مرة يُنفَى ، ومرة يُثبت ، لكن جهة النفي مُنفكَّة عن جهة الإثبات ، فمثلاً الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ … } [ الأنفال : 17 ] . فنفى الرمي في الأولى ، وأثبته في الثانية ، والحدث واحد ، والمثَبت له والمنفيّ عنه واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم . فكيف نخرج من هذا الإشكال ؟ أرمَى الرسول أم لم يَرْمِ ؟ ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً بالأب الذي جلس بجوار ولده كي يذاكر دروسه ، فأخذ الولد يذاكر ، ويُقلِّب صفحات الكتاب ، وحين أراد الأب اختبار مدى ما حصَّل من معلومات لم يجد عنده شيئاً ، فقال للولد : ذاكرت وما ذاكرت . ذاكرت يعني : فعلت فِعْل المذاكر ، وما ذاكرت لأنك لم تُحصِّل شيئاً . فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رمى ، أيمكنه أنْ يُوصل هذه الرمية إلى أعين الجيش كله ؟ إذن : فرسول الله أخذ قبضة من التراب ورمى بها ناحية الجيش ، إنما قدرة الله هي التي أوصلتْ حفنة التراب هذه وذَرَّتْها في أعيُنِ الأعداء جميعاً . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الجاثية : 26 ] فنفتْ عنهم العلم ، وفي آية أخرى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الروم : 7 ] فأثبتتْ لهم عِلْماً . نعود إلى قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ … } [ طه : 105 ] وحينما استعرضنا يَسْألُونَكَ في القرآن الكريم وجدنا جوابها مسبوقاً بـ قُلْ كما في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ … } [ البقرة : 219 ] . وقوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ … } [ البقرة : 189 ] وهكذا في كل الآيات ، ما عدا قوله تعالى هنا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] فاقترن الفعل قُلْ بالفاء ، لماذا ؟ قالوا : لأن السؤال في كُلِّ هذه الآيات سؤال عن شيء وقع بالفعل ، فكان الجواب بقُلْ . مثل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى … } [ البقرة : 222 ] أما { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ … } [ طه : 105 ] قال في الجواب { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] لأنه حَدَثٌ لم يقع بَعْد . والحق - سبحانه وتعالى - يُخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيُسَأل هذا السؤال ، فكأن الفاء هنا دَلَّتْ على شرط مُقدّر ، بمعنى : إنْ سألوك بالفعل فقُلْ : كذا وكذا . إذن : السؤال عن الجبال لم يكُنْ وقت نزول الآية ، أمَّا الأسئلة الأخرى فكانت موجودة ، وسُئِلت لرسول الله قبل نزول آياتها . وقد تأتي إجابة السؤال بدون قُلْ كما في قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ … } [ البقرة : 186 ] ولم يقُلْ هنا قُلْ أو فقُلْ لأنها تدُّل على الواسطة بين الله تعالى وبين عباده ، وكأن الحق - سبحانه - يُوضّح أنه قريب من عباده حتى عن الجواب بقُلْ . وقد تتعجب : كيف تأتي في القرآن كل هذه الأسئلة لرسول الله مع أن القرآن كتاب منهج جاء بتكاليف قد تشقُّ على الناس لأنه يلزمهم بأمور تخالف ما يشتهون ، فكان المفروض ألاَّ يسألوا عن الأمور التي لم ينزل فيها حكم . نقول : دَلَّتْ أسئلتهم هذه على عِشْقهم لأحكام الله وتكاليفه ، فالأشياء التي كانت عاداتٍ لهم في الجاهلية يريدون الآن أنْ يُؤدُّوها على طريقة الإسلام على أنها عبادة ، لا مجرد عادة جاهلية . مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن السؤال فقال : " دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " . ومع ذلك سألوا وأرادوا أنْ تُبنَى حياتهم على منهج القرآن من الله ، لا على أنه إِلْف عادة كانت لهم في الجاهلية ، إذن : هذه الأسئلة ترسيمٌ للأمر من جانب الحق سبحانه وتعالى . وقوله تعالى : { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] تكلمنا عن هذا المعنى في قوله تعالى : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً } [ طه : 97 ] فالمراد : نُفتِّتها ونذروها في الهواء ، وأكَّد النسف ، فقال { نَسْفاً } [ طه : 97 ] ليؤكد أن الجبل سيتفتت إلى ذرات صغيرة يذروهاالهواء . فقد يتصوَّر البعض أنْ الجبال تُهَدُّ ، وتتحول إلى كُتَل صخرية كما نُفجِّر نحن الصخور الآن إلى قطع كبيرة لذلك أكّد على النسف ، وأن الجبال ستكون ذرات تتطاير لذلك قال في آية أخرى : { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] أي : كالصوف المندوف . لكن ، لماذا ذكر الجبال بالذات ؟ قالوا : لأن الإنسان يرى أنه ابْنُ أغيار في ذاته ، وابن أغيار فيما حوله مِمَّا يخدمه من حيوان أو نبات ، فيرى الحيوان يموت أو يُذبَح ، ويرى النبات يذبل ثم يجفّ ويتفتَّت ، والإنسان نفسه يموت وينتهي . إذن : كل ما يراه حوله بيِّن فيه التغيير والانتهاء ، إلا الجبال يراها راسية ثابتة ، لا يلحقها تغيير ظاهر على مرِّ العصور . لذلك يُضرب بها المثل في الثبات ، كما في قوله الحق سبحانه وتعالى : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] . فالجبال مظهر للثبات ، فقد يتساءل الإنسان عن هذا الخلْق الثابت المستقر ، ماذا سيفعل الله به ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً … } .