Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 113-113)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كَذَلِكَ أي : كالإنزال الذي أنزلناه إلى الأمم السابقة ، فكما أرسلنا إليهم رُسُلاً أرسلنا إلى الأمم المعاصرة لك رسلاً ، إلا أنْ فارق الرسالات أنهم بُعِثُوا لزمان محدود ، في مكان محدود ، وبُعثْتَ للناس كافّة ، وللزمان كافة إلى أنْ تقوم الساعة . ونفهم من كلمة { أَنزَلْنَاهُ … } [ طه : 113 ] أن المُنزَّل أعلى من المُنزَّل عليه ، فالإنزال من شيء عالٍ ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يلفت أنظارنا ويُصعِّد هممنا ، فيقول : لا تهبطوا إلى مستوى تشريع الأرض لأنه يُقنِّن للحاضر ويجهل المستقبل ، ويتحكم فيه الهوى فتغيب عنه أشياء فيحتاج إلى استدراك . لذلك ، حين ينادينا إلى منهجه العلوي يقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ … } [ الأنعام : 151 ] يعني : اعلوا وخُذُوا منهجكم من أعلى ، لا من الأرض . { قُرْآناً … } [ طه : 113 ] يعني : مقروء ، كما قال { كِتَاباً … } [ الأنبياء : 10 ] يعني : مكتوب ، ليُحفظ في الصدور وفي السطور . وقال { قُرْآناً عَرَبِيّاً … } [ طه : 113 ] مع أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرْسَل إلى الناس كافة في امتداد الزمان والمكان ، والقرآن نزل معجزة للجميع . قالوا : لأنه صلى الله عليه وسلم هو المباشر لهذه الأمة العربية التي ستستقبل أول دعوة له ، فلا بُدَّ أنْ تأتي المعجزة بلسانها ، كما أن معجزة القرآن ليستْ للعرب وحدهم ، إنما تحدٍّ للإنس والجن على امتداد الزمان والمكان . كما قال سبحانه : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ … } [ الإسراء : 88 ] . فالقرآن تحدٍّ لكل الأجناس : الروسي ، والأمريكي ، والياباني ، والدنيا كلها ، ومعهم الجن أيضاً . لكن لماذا والجن أيضاً داخل في مجال التحدي ؟ قالوا : لأن العرب قديماً كانوا يعتقدون أن لكل شاعر أو خطيب مفوه شيطاناً يمُدُّه ويُوحِي إليه لذلك أدخل الجن أيضاً في هذا المجال . وقد يقول قائل : وكيف نتحدّى بالقرآن غير العرب وهو بلسان عربي ، فهو حجة على العرب دون غيرهم ؟ نقول : وهل إعجاز القرآن من حيث أسلوبه العربي وأدائه البياني فقط ؟ لا ، فجوانب الإعجاز في القرآن كثيرة لا تختلف فيها اللغات ، فهل تختلف اللغات في التقنين لخير المجتمع ؟ ألم يأْتِ القرآن بمنهج في أمة بدوية أمية يغزو أكبر حضارتين معاصرتين له ، هما حضارة فارس في الشرق ، وحضارة الروم في الغرب ؟ ألم تكُنْ هذه الظاهرة جديرةً بالتأمل والبحث ؟ ثم الكونيات التي تحدَّث القرآن عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً ، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن . إذن : طبيعي أن يأتي القرآن عربياً لأنه نزل على رسول عربي ، وفي أمة عربية ، والحق سبحانه يقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ … } [ إبراهيم : 4 ] . فهم الذين يستقبلون الدعوة ، وينفعلون لها ، ويقتنعون بها ، ثم ينساحون بها في شتَّى بقاع الأرض ، ومن العجيب أنهم بدعوة القرآن أقنعوا الدنيا التي لا تعرف العربية ، أقنعوها بالمبادىء والمناهج التي جاء بها القرآن لأنها مبادىء ومناهج لا تختلف عليها اللغات . ثم يقول تعالى : { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ … } [ طه : 113 ] أي : حينما ينذر القرآن بشيء يُصرف هذا الإنذار على أوجه مختلفة ، ويُكرَّر الإنذار لينبه أهل الغفلة . يعني : لوَّنا فيه كل أساليب الوعد والوعيد ، فكل أسلوب يصادف هوى في نفس أحد المستقبلين ، فخاطبنا الأهواء كلها بكل مستوياتها ، فالعالم والجاهل ومتوسط الفكر ، الكل يجد في القرآن مَا يناسبه لأنه يُشرِّع للجميع ، للفيلسوف وللعامي ، فلا بُدَّ أنْ يكون في القرآن تصريفٌ لكل ألوان الملكات ليقنع الجميع . وفي القرآن وَعْد ووعيد ، فلكل منهما أهْل ، ومَنْ لم يَأْتِ بالإغراء بالخير يأتي بأن ينزعه بالقوة والجبروت ، كما قال الشاعر : @ أَنَاةٌ فَإِنْ لم تُغْنِ عَقَّبَ بعدَها وَعِيداً فَإنْ لم يُغْن أغنَتْ عَزَائمهُ @@ وفي الأثر : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " . والإنذار والتخويف نعمة من الله ، كما ورد في سورة الرحمن ، حيث يقول تعالى : { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 19 - 21 ] فهذه نعم من الله . أما قوله : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 - 36 ] فما النعمة في النار والشُّواظ ؟ النعمة أن ينذرك الله بها ويحذرك منها ، قبل أنْ تقعَ فيها ، ويعظك بها وأنت ما زلتَ في فترة المهلة والتدارك ، فلا يأخذك على غِرَّة ولا يتركك على غفلتك . كما تُحذِّر ولدك : إنْ أهملتَ دروسك فسوف تفشل في الامتحان فيحتقرك زملائك ، ويحدث لك كيت وكيت ، فلم يترك ولده على غَفْلته وإهماله ، إلى أنْ يداهمه الامتحان ويُفاجِئه الفشل ، أليستْ هذه نعمة ؟ أليستْ نصيحة مهمة ؟ والتصريف : يعني التحويل والتغيير بأساليب شتَّى لتناسب استقبال الأمزجة المختلفة عند نزول القرآن لعلها تصادف وَعْياً واهتماماً { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [ طه : 113 ] . { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ … } [ طه : 113 ] الاتقاء عادة يكون للشر والمعاصي المهلكة ، أو يُحدِث لهم الذكْر والشرف والرفعة بفعل الخيرات ، وهذا من ارتقاءات الطاعة . ذلك لأن التكليف قسمان : قسم ينهاك عن معصية ، وقسم يأمرك بطاعة ، فينهاك عن شُرْب الخمر ، ويأمرك بالصلاة ، فهم يتقون الأول ، ويُحدِث لهم ذِكْراً يوصيهم بعمل الثاني . وما دام القرآن نازلاً من أعلى فلا بُدَّ أن يقول بعدها : { فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ … } .