Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 114-114)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ تَعَٰلَى … } [ طه : 114 ] تنزّه وارتفع عن كل ما يُشبه الحادث ، تعالى ذاتاً ، فليستْ هناك ذاتٌ كذاته ، وتعالى صفاتاً فليست هناك صفة كصفته ، فإنْ وُجِدَتْ صفة في الخَلْق تشبه صفة في الخالق سبحانه ، فخُذْها في ضوء { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . فالحق سبحانه لا يضنُّ على عبده أنْ يُسميه خالقاً إنْ أوجد شيئاً من عدم ، إنما لما تكلم عن خَلْقه سبحانه ، قال : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنين : 14 ] . فأنت خالق ، لكن ربَّك أحسَنُ الخالقين ، فأنت خلقتَ من موجود أمّا ربك عز وجل فقد خلق من العدم ، أنت خلقتَ شيئاً جامداً على حالة واحدة ، والله خلق خَلْقاً حياً نامياً ، يُحسُّ ويتحرك ويتكاثر ، وسبق أنْ مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى - بصانع الأكواب الزجاجية من الرمال ، وأوضحنا الفرق بين خَلْق وخَلْق . وقوله تعالى : { فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ … } [ طه : 114 ] تلفتنا إلى ضرورة التطلع إلى أعلى في التشريع . فما الذي يُجبرك أنْ تأخذ تشريعاً من عبد مثلك ؟ ولماذا لا يأخذ هو تشريعك ؟ إذن : لا بُدَّ أن يكون المشرِّع أعلى من المشرَّع له . ومن ألفاظ تنزيه الله التي لا تُقال إلا له سبحانه كلمة سبحان الله أسمعتَ بشراً يقولها لبشر ؟ وهناك كفرة وملاحدة ومنكرون للألوهية ومعاندون ، ومع ذلك لم يقُلْها أحد مَدْحاً في أحد . كذلك كلمة تعالى وتبارك لا تُقال إلا لله ، فنقول : تباركت ربنا وتعاليت أي : وحدك لا شريك لك . فقوله : { فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ … } [ طه : 114 ] علا قَدْره وارتفع التنزيه ارتفاعاً لا يوصل إليه ، أمّا التعالي في البشر فيما بينهم فأمْر ممقوتٌ أما تعالى الحق سبحانه فمن مصلحة الخلق ، وهذه اللفتة يُعَبِّر عنها أهل الريف ، يقولون اللي ملوش كبير يشتري له كبير لأن الكبير هو الذي سيأخذ بيد الضعيف ويدكّ طغيان القوى ، فإذا لم يكُنْ لنا كبير نختلف ونضيع . إذن : من مصلحة الكون كله أنْ يكونَ الله متعالياً ، والحق ليس متعالياً علينا ، بل متعالٍ من أجلنا ولصالحنا ، فأيُّ مُتعالٍ أو جبار من البشر عندما يعلم أن الله أعلى منه يندكّ جبروته وتعاليه ، وأيّ ضعيف يعلم أن له سنداً أعلى لا يناله أحد ، فيطمئن ويعيش آمناً وبذلك يحدث التوازن الاجتماعي بين الناس . ونحن نحب عبوديتنا لله عز وجل ، وإنْ كانت العبودية كلمة بغيضة مكروهة حين تكون عبودية الخَلْق للخَلْق فيأخذ السيد خَيْر عبده ، إلا أن العبودية لله شرف وكرامة لأن العبد لله هو الذي يأخذ خَيْر سيده ، فأنا عبد لله وعبوديتي له لصالحي أنا ، ولن أزيد في مُلْكه شيئاً ، ولن ينتفع من ورائي بشيء لأنه سبحانه زوال مُلْكه وزوال سلطانه في الكون قبل أن يخلق الخَلْق ، فبقدرته وعظمته خلق ، وقبل أنْ توجد أنت أيها الإنسان الطاغي المتمرد أوجد لك الكون كله بما فيه . فأنت بإيمانك لن تزيد شيئاً في مُلْك الله ، كما جاء في الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني ، ولن تملكوا ضري فتضروني … " فأنا إنْ تصرَّفْتُ فيكم فلمصلحتكم ، لا يعود عليَّ من ذلك شيء . وقوله تعالى : { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ … } [ طه : 114 ] لأن هناك ملوكاً كثيرين ، أثبتَ الله لهم الملْك وسمَّاهم مُلُوكاً ، كما قال سبحانه : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ … } [ يوسف : 50 ] وقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ … } [ البقرة : 258 ] . إذن : في الدنيا ملوك ، لكنهم ليسوا مُلوكاً بحق ، الملك بحق هو الله لأن ملوك الدنيا ملوك في مُلْك موهوب لهم من الله ، فيمكن أن يفوت مُلْكَه ، أو يفوته المْلكُ ، وأيُّ مُلْك هذا الذي لا يملكه صاحبه ؟ أيّ مُلْك هذا الذي يُسلب منك بانقلاب أو بطلقة رصاص ؟ إذن : الملِك الحق هو الله ، وإن ملَّك بعض الخلق شئون بعض لمصلحتهم ، فهو سبحانه الذي يهَب الملْك ، وهو الذي ينزعه إن أراد : { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ … } [ آل عمران : 26 ] . فالحق سبحانه له الملْك الحق ، ويهَبُ من مُلْكه لمَنْ يشاء ، لكن يظل المَلِك وما مَلَكه في قبضة الله لأنه سبحانه قيُّوم على خَلْقه لا يخرج أحد عن قيوميته . وقد نسمع مَنْ يسبُّ الملوك والرؤساء ، ومَنْ يخوض في حقهم ، وهو لا يدري أن مُلْكهم من الله ، فهو سبحانه الذي ملّكهم وفوَّضهم ، ولم يأخذ أحد منهم مُلْكاً رَغْماً عن الله ، فلا تعترض على اختيار الله واحترم مَنْ فوَّضه الله في أمرك ، واعلم أن في ذلك مصلحة البلاد والعباد ، ومَنْ يدريك لعلَّ الطاغية منهم يصبح غَداً واحداً من الرعية . إذن : الحق سبحانه ملَّك بعض الناس أمْر بعض : هذا يتصرف في هذا ، وهذا يملك هذا لتسير حركة الكون ، فإذا كانت القيامة ، قال عز وجل : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] هذا هو الملْك الحق . ومن عظمته في التعالى أنه يريحك هو سبحانه بعمله لك ، فيقول لك : نَمْ مِلْءَ جفونك ، فأنا لا تأخذني سِنَة ولا نوم ، نَمْ فلكَ رب قيوم قائم على أمرك يرعاك ويحرسك . ومن معاني { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ … } [ طه : 114 ] أي : الثابت الذي لا يتغير ، وكُلُّ ظاهرة من ظواهر القوة في الكون تتغير إلا قوة الحق - تبارك وتعالى - لذلك يُلقِي سبحانه أوامره وهو واثق أنها ستُنفذ لأنه سبحانه ملِكٌ حقّ ، بيده ناصية الأمور كلها ، فلو لم يكُنْ سبحانه كذلك ، فكيف يقول للشيء : كُنْ فيكون ؟ فلا يعصاه أحد ، ولا يخرج عن طَوْعه مخلوق ، فيقول له : كُنْ فلا يكون . فالحق - تبارك وتعالى - أنزل القرآن عربياً ، وصرَّف فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً لأنه من حقه أن يكون له ذلك لأنه مَلِك حق ليس له هوى فيما شرع لذلك يجب أن تقبل تشريعه ، فلا يطعن في القوانين إلا أن تصدر عن هوى ، فإنْ قنَّن رأسمالي أعطَى الامتياز للرأسماليين ، وإنْ قنَّن فقير أعطى الامتياز للفقراء ، والله عز وجل لا ينحاز لأحد على حساب أحد . وأيضاً يجب في المقنِّن أن يكون عالماً بمستجدَّات الأمور في المستقبل ، حتى لا يستدرك أحد على قانون فيُغيِّره كما يحدث معنا الآن ، وتضطرنا الأحداث إلى تغيير القانون لأننا ساعة شرعناه غابتْ عنا هذه الأحداث ، ولم نحتط لها لذلك لا استدراكَ على قانون السماء أبداً . وطالما أن الحق سبحانه وتعالى هو { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ … } [ طه : 114 ] فلا بُدَّ أنْ يضمن للخلق أنْ يصلهم الكتاب والمنهج كما قاله سبحانه ، لا تغيير فيه لذلك قال عز وجل : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . نحن الذين سنحفظه لأن البشر جُرِّبوا في حِفْظ مناهج السماء ، ولم يكونوا أمناء عليها ، فغيَّروا في التوراة وفي الإنجيل وفي الكتب المقدَّسة ، إما بأن يكتموا بعض ما أنزل الله ، وإما أنْ ينسُوا بعضه ، والذي ذكروه لم يتركوه على حاله بل حرَّفوه . وإنْ قُبِل منهم هذا كله فلا يُقبَل منهم أنْ يفتَرُوا على الله فيُؤلِّفون من عندهم ، ويقولون : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ … } [ آل عمران : 78 ] . ذلك لأن الحفْظ للمنهج كان موكولاً للبشر تكليفاً ، والتكليف عُرْضَة لأنْ يُطَاع ، ولأن يُعْصَى ، كما قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ … } [ المائدة : 44 ] . أي : طلب منهم أن يحفظوها بهذا الأمر التكليفي ، فعَصَوْه نسياناً ، وكتماناً ، وتحريفاً ، وزيادة لذلك تولّى الحق - تبارك وتعالى - حفْظ القرآن لأنه الكتاب الخاتم الذي لا استدراكَ عليه ، وضمن سبحانه للقرآن ألاَّ يُحرَّف بأيِّ وجه من أَوْجُه التحريف . فاطمئنوا إلى أن القرآن كتاب الله الذي بين أيديكم هو كلام الله الذي جاء من علمه تعالى في اللوح المحفوظ الذي قال عنه : { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [ الواقعة : 78 - 79 ] . ثم نزل به الروح الأمين ، وهو مُؤتَمن عليه لم يتصرَّف فيه ، ثم نزل على قلب سيد المرسلين الذي قال الله عنه : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } [ الحاقة : 44 - 45 ] . إذن : حُفِظ القرآن عِلْماً في اللوح المحفوظ ، وحُفِظ في أمانة مَنْ نزل به من السماء ، وحُفِظ في مَنْ استقبله وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا حجةَ لنا بعد أن جمع الحق - سبحانه وتعالى - للقرآن كُلَّ ألوان الحفظ . لذلك كان ولا بُدَّ حين يُنزِل الله القرآن على رسوله أن يقول له : { فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } [ طه : 114 ] فليست هناك حقيقة بعد هذا أبداً ، وليس هناك شيء ثابت ثبوتَ الحق سبحانه وتعالى . ثم يقول تعالى { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ … } [ طه : 114 ] وهذه مُقدِّمات ليطمئن رسول الله على حِفْظ القرآن لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي ، فيحاول إعادته كلمة كلمة . فإذا قال الوحي مثلاً : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ … } [ الجن : 1 ] فيأخذ الرسول في تكرارها في سِرِّه ويُردِّدها خلف جبريل عليه السلام مخافة أنْ ينساها لشدة حِرْصه على القرآن . فنهاه الله عن هذه العَجَلة { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْآنِ … } [ طه : 114 ] أي : لا تتعجل ، ولا تنشغل بالتكرار والترديد ، فسوف يأتيك نُضْجها حين تكتمل ، فلا تَخْشَ أنْ يفوتك شيءٌ منه طالما أنني تكفَّلْتُ بحِفْظه لذلك يقول له في موضع آخر : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] . فاطمئن ولا تقلق على هذه المسألة لأن شغلك بحفظ كلمة قد يُفوِّت عليك أخرى . والعَجَلة أنْ تُخرِج الحدث قبل نُضْجه ، كأن تقطف الثمرة قبل نُضْجها وقبل أوانها ، وعند الأكل تُفَاجأ بأنها لم تَسْتَوِ بعد ، أو تتعجل قَطْفها وهي صغيرة لا تكفي شخصاً واحداً ، ولو تركتها لأوانها لكانت كافية لعدة أشخاص . والقرآن كلام في مستوى عَالٍ من البلاغة ، وليس كلاماً مألوفاً له يسهُل عليه حِفْظه لذلك كان حريصاً على الحِفْظ والتثبيت . وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذه المسألة : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 16 - 18 ] أي : لما تكتمل الآيات فلكَ أنْ تقرأها كما تحب . وهذه الظاهرة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، نبي ينزل عليه عدة أرباع من القرآن ، أو السورة كاملة ، ثم حين يُسرى عنه الوحي يعيدها كما أُنزِلتْ عليه ، ولك أن تأتي بأكثر الناس قدرة على الحفظ ، واقرأ عليه لمدة عشر دقائق مثلاً من أي كتاب أو أي كلام ، ثم اطلب منه إعادة ما سمع فلن يستطيع . أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأمر الكَتبة بكتابة القرآن ، ثم يمليه عليهم كما سمعه ، لا يُغير منه حرفاً واحداً ، بل ويُملي الآيات في موضعها من السور المختلفة فيقول : " ضعوا هذه في سورة كذا ، وهذه في سورة كذا " . ولو أن السورة نزلت كاملة مرة واحدة لكان الأمر إلى حَدٍّ ما سهلاً ، إنما تنزل الآيات متفرقة ، فإذا ما قرأ صلى الله عليه وسلم في الصلاة مثلاً قرأ بسورة واحدة نزلتْ آياتها متفرقة ، هذه نزلت اليوم ، وهذه نزلت بالأمس ، وهكذا ، ومع ذلك يقرؤها مُرتَّبة آية آية . وقوله تعالى بعدها : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 19 ] وخاطب النبي في آية أخرى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ … } [ النحل : 44 ] فالبيان من الله تعالى والتبيين من النبي صلى الله عليه وسلم . ومعنى : { مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ … } [ طه : 114 ] أي : انتظر حتى يسري عنك ، لكن كيف يعرف الرسول ذلك ؟ كيف يعرف أن الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي قد زالتْ ؟ والصحابة يصفون حال النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه فيقولون : كنا نسمع حول رأسه كغطيط النحل ، وكان جبينه يتفصد عرقاً ، ويبلغ منه الجهد مبلغاً ، وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ برسول الله لأن الله تعالى قال : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] . إذن : هناك آيات مادية تعرض لرسول الله عند نزول الوحي لأن الوَحْي من مَلَك له طبيعته التكوينية التي تختلف وطبيعة النبي البشرية ، فلكي يتم اللقاء بينهما مباشرة لا بُدَّ أنْ يحدث بينهما نوعٌ من التقارب في الطبيعة فإمّا أن يتحول الملَك من صورته الملائكية إلى صورة بشرية ، أو ينتقل رسول الله من حالته البشرية إلى حالة ملائكية ارتقائية حتى يتلقّى عن الملك . لذلك ، كانت تحدث لرسول الله تغييرات كيماوية في طبيعته ، هذه التغييرات هي التي تجعله يتصبَّبُ عَرَقاً حتى يقول : " " زملوني زملوني " أو " دثروني دثروني " " لما حدث في تكوينه من تفاعل . فكان الوحي شاقاً على رسول الله خاصة في أوله ، فأراد الحق - سبحانه - أنْ يُخفِّف عن رسوله هذه المشقة ، وأنْ يُريحه فترة من نزول الوحي ليريحه من ناحية وليُشوِّقه للوحي من ناحية أخرى ، فقال تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [ الشرح : 1 - 3 ] والوِزْر هو الحِمْل الثقيل الذي كان يحمله رسول الله في نزول الوحي عليه . فلما فتر الوحي عن رسول الله شمتَ به الأعداء ، وقالوا : إن ربَّ محمد قد قلاه . سبحان الله ، أفي الجَفْوة تذكرون أن لمحمد رباً ؟ ألستم القائلين له : كذاب وساحر ؟ والآن أصبح له رب لأنه قلاه ؟ وما فهم الكفار أن فتور الوحي لحكمة عالية ، أرادها ربُّ محمد ، هي أنْ يرتاح نفسياً من مشقة هذه التغيرات الكيماوية في تكوينه ، وأنْ تتجدد طاقته ، ويزداد شوقه للقاء جبريل من جديد ، والشَّوْق إلى الشيء يُهوِّن الصعاب في سبيله . كما يسير المحب إلى حبيبه ، لا تمنعه مشاقّ الطريق . فردَّ الله على الكفار : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [ الضحى : 1 - 5 ] . فنفى عن رسوله ما قاله الكفار ، ثم عدَّل عبارتهم : إن ربَّ محمد قد قلاه فقال : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 3 ] هكذا بكاف الخطاب لأن التوديع قد يكون للحبيب . أمَّا في قوله : { وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 3 ] فلم يأْتِ هنا بكاف الخطاب حتى مع النفي ، فلم يقُلْ وما قلاك لأن النفي مع ضمير المخاطب يُشْعِر بإمكانية حدوث الكُره لرسول الله . كما لو قلت : أنا لم أرَ شيخ الأزهر يشرب الخمر ، أمدحتَ شيخ الأزهر بهذا القول أم ذَمَمْته ؟ الحقيقة أنك ذممته لأنك جعلته مظنة أن يحدث منه ذلك . فهذا التعبير القرآني يعطي لرسول الله منزلته العالية ومكانته عند ربه عز وجل . لكن ، ما الحكمة في أن الحق - تبارك وتعالى - أقسم في هذه المسألة بالضحى وبالليل إذا سَجَى ؟ وما صلتهما بموضوع غياب الوحي عن رسول الله ؟ الله عز وجل يريد بقوله : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [ الضحى : 1ـ2 ] أن يرد هؤلاء إلى ظاهرة كونية مُشَاهدة ومُعْتَرف بها عند الجميع ، وهي أن الله خلق النهار وجعله مَحلاً للحركة والنشاط والسعي ، وخلق الليل وجعله مَحَلاً للراحة والسكون ، فيرتاح الإنسان في الليل ليعاود نشاطه في الصباح من جديد . وهكذا أمر الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أجهده الوحي احتاج إلى وقت يرتاح فيه ، لا لتنتهي المسألة بلا عودة ، بل ليُجدِّد نشاط النبي ، ويُشوِّقه للوحي من جديد لذلك بشَّره بقوله : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] أي : انتظر يا محمد ، فسوف يأتيك خير كثير . فالحق سبحانه يُرجِعهم إلى ظواهر الكون ، وإلى الطبيعة التي يعيشون عليها ، فأنتم ترتاحون من عَناء النهار بسكون الليل ، فلماذا تنكرون على محمد أن يرتاح من عناء الوحي ومشقته ؟ وهل راحتكم في سكون الليل تعني دوام الليل وعدم عودة النهار ؟ وقوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] هذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم للاستزادة من العلم ، فما دُمْتَ أنت يا رب الحافظ فزِدْني منه ، ذلك لأن رسول الله سيحتاج إلى علم تقوم عليه حركة الحياة من لَدُنْه إلى أن تقوم الساعة ، عِلْمٌ يشمل الأزمنة والأمكنة ، فلا بُدَّ له أنْ يُعَدَّ الإعدادَ اللازم لهذه المهمة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ … } .