Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 115-115)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كأن الحق - تبارك وتعالى - يُعزِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له : اقبلهم على عِلاَّتهم ، فهُمْ أولاد آدم ، والعصيان أمر وارد فيهم ، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسى ، فإذا نسى هؤلاء فاقبل منهم فهم أولاد " نسَّاي " . لذلك ، إذا أوصيتَ أحداً بعمل شيء فلم يَقُمْ به ، فلا تغضب ، وارجع الأمر إلى هذه المسألة ، والتمس له عُذْراً . وقوله : { عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ … } [ طه : 115 ] أي : أمرنا ووصَّيْنا ووعظنا ، وقلنا كل شيء . { مِن قَبْلُ … } [ طه : 115 ] هذه الكلمة لها دَوْر في القرآن ، وقد حسمتْ لنا مواقف عدة ، منها قوله هنا عن آدم والمراد : خُذْ لهم أُسْوة من أبيهم الذي كلّفه الله مباشرة ، ليس بواسطة رسول ، وكلّفه بأمر واحد ، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد : كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه بأمر واحد ، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد : كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه الشجرة ، هذا هو التكليف ، ومع ذلك نسى آدم ما أُمِر به . إذن : حينما يأتي التكليف بواسطة رسول ، وبأمور كثيرة ، فمَنْ نسى من ولد آدم فيجب أنْ نعذره ونلتمس له عذراً ، ولكثرة النسيان في ذرية آدم قال تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ … } [ طه : 82 ] بالمبالغة لأن الجميع عُرْضَة للنسيان وعُرْضة للخطأ ، فالأمر - إذن - يحتاج إلى مغفرة كثيرة . كذلك جاءتْ من قبل في قوله تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ … } [ البقرة : 91 ] . فكان لها دور ومَغْزى ، فلو قال الحق سبحانه : فَلِمَ تقتلون أنبياء الله ؟ فحسْب ، فربما جرَّأهم على الاعتداء على رسول الله أنْ يقتلوه ، أو يفهم منها رسول الله أنه عُرْضة للقتل كما حدث مع سابقيه من الأنبياء . لذلك قيَّدها الحق - تبارك وتعالى - وجعلها شيئاً من الماضي الذي لن يكون ، فهذا شيء حدث من قبل ، وليس هذا زمانه . وقوله : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] أي : نسي العَهْد ، هذه واحدة . { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] ليس عنده عزيمة قوية تُعينه على المضيِّ والثبات في الأمر . فالحق - تبارك وتعالى - يريد أن يعطينا فكرة بأنه سبحانه حين يأمر بأمْر فيه نفع لك تتهافت عليه ، أمّا إذا أمر بشيء يُقيِّد شهواتك تأبَّيْتَ وخالفتَ ، ومن هنا احتاج التكليف إلى عزيمة قوية تعينك على المضيّ فيه والثبات عليه ، فإنْ أقبلتَ على الأمر الذي يخالف شهوتك نظرتَ فيه وتأملتَ : كيف أنه يعطيك شهوة عاجلة زائلة لكن يعقبها ذلٌّ آجل مستمر ، فالعَزْم هنا ألاَّ تغريك الشهوة . ألا ترى أن الله تعالى سمَّى الرسل أصحاب الدعوات والرسالات الهامة في تاريخ البشرية { أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ … } [ الأحقاف : 35 ] لأنهم سيتحملون مشاقَ ومهامَ صعبة تحتاج إلى ثبات وصبر على التكاليف . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ … } [ البقرة : 63 ] أي : عزيمة تدفع إلى الطاعات ، وتمنع من المعاصي . ومسألة نسيان العبد للمنهيات التي يترتب عليها عقاب وعذاب أثارتْ عند الناس مشكلة في القضاء والقدر ، فتسمع البعض يقول : ما دام أن الله تعالى كتب عليَّ هذا الفعل فَلِمَ يعاقبني عليه ؟ ونعجب لهذه المقولة ، ولماذا لم تَقُلْ أيضاً : لماذا يثيبني على هذا الفعل ، ما دام قد كتبه عليَّ ؟ لماذا توقفتَ في الأولى وبلعْت الأخرى ، بالطبع لأن الأولى ليست في صالحك . إذن ، عليك أن تتعامل مع ربك معاملة واحدة ، وتقيس الأمور بمقياس واحد . والعهد الذي أخذه الله على آدم أنْ يأكل رَغَداً من كل نعيم الجنة كما يشاء إلا شجرة واحدة حذَّره من مجرد الاقتراب منها هو وزوجه : { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [ البقرة : 35 ] . وهذه المسألة تلفتنا إلى أن المحللات كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى أمّا المحرمات فقليلة معدودة محصورة لذلك حينما يُحدِّثنا الحق سبحانه عن التكليف يقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ … } [ الأنعام : 151 ] فالمحرَّمات هي التي يمكن حصرها ، أما المحللات فخارجة عن نطاق الحَصْر . ونلحظ أن الله تعالى حينما يُحذِّرنا من المحرمات لا يُحذِّرنا من مباشرتها ، بلْ مِن مجرد الاقتراب منها { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ … } [ البقرة : 35 ] ولم يقُلْ : لا تأكلا منها ليظل الإنسان بعيداً عن منطقة الخطر ومظنّة الفِعْل . وحينما يُحدِّثنا ربُّنا عن حدوده التي حدَّهَا لنا يقول في الحدّ المحلَّل : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] وفي الحدِّ المحّرم يقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] ذلك لأن مَنْ حامَ حول الحِمَى يوشك أنْ يقع فيه . وقد كان للعلماء كلام طويل حول ما نسيه آدم عليه السلام ، فمنهم مَنْ قال : نسى كُل من هذه ولا تقرب هذه ، وعلى هذا الرأي لم يَنْسَ آدم لأنه نفَّذ الأمر فأكل مِمّا أحله الله له ، أما كونه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فليس في هذه أيضاً نسيان لأن إبليس ذكّره بهذا النهي فقال : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] . فحينما أكل آدم من الشجرة لم يكُنْ ناسياً ما نهاه الله عنه . إذن : ما المقصود بالنسيان هنا ؟ المقصود أن آدم - عليه السلام - نسى ما أخبره الله به من عداوة إبليس - لعنه الله - حين قال له : { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } [ طه : 117 ] . والفكر البشري لا بُدَّ أن تفوتَهُ بعض المسائل ، ولو كان عند الإنسان يقظة وحَذَر ما انطلى عليه تغفيل إبليس ، فتراه يُذكِّر آدمَ بالنهي ولم يَدَعْهُ في غفلته ثم يحاول إقناعه : إنْ أكلتُما من هذه الشجرة فسوف تكونَا ملَكين ، أو تكونَا من الخالدين . وما دُمْتَ أنت يا إبليس بهذا الذكاء ، فلماذا لم تأكل أنت من الشجرة وتكون مَلَكاً أو تكون من الخالدين ؟ لماذا تضاءلت فصِرْتَ أرنباً تقول : { أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الأعراف : 14 ] . إذن : هذا نموذج من تغفيل إبليس لآدم وذريته من بعده ، يلفتنا الله تعالى إليه يقول : تيقظوا واحذروا ، فعداوته لكم مُسْبقة منذ سجد الجميع لآدم تكريماً ، وأَبَى هو أن يسجد . فكان على آدم أنْ يُحذِّر عدوه ، وأنْ يتحصَّن له بسوء الظن فيه ، فينظر في قوله ويفكر في كلامه ويفتش في اقتراحه . والبعض يقول : إن خطأ آدم ناتج عن نسيان ، فهو خطأ غير مُتعَمَّد ، والنسيان مرفوع ، كما جاء في الحديث الشريف : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . فهل كان النسيان قديماً لا يُرْفَع ، ورُفِع لهذه الأمة إكْراماً لها ؟ فأصحاب هذا القول يلتمسون العُذْر لآدم عليه السلام ، لكن كيف وقد كلَّفه ربُّه مباشرة ، وكلَّفه بأمر واحد ، فالمسألة لا تحتمل نسياناً ، فإذا نسي آدم مع وحدة التكليف وكَوْنه من الله مباشرة ، فهذا على آية حال جريمة . ثم يقص الحق سبحانه علينا قصة آدم مع إبليس : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ … } .