Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 127-127)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { كَذٰلِكَ … } [ طه : 127 ] أي : مثل هذا الجزاء { نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ … } [ طه : 127 ] والإسراف : تجاوز الحدِّ في الأمر الذي له حَدٌّ معقول ، فالأكْل مثلاً جعله الله لاستبقاء الحياة ، فإنْ زاد عن هذا الحدِّ فهو إسراف . دَخْلك الذي يسَّره الله لك يجب أن تنفق منه في حدود ، ثم تدَّخر الباقي لترقى به في الحياة ، فإنْ أنفقتَه كله فقد أسرفْتَ ، ولن تتمكن من أن تُرقِّى نفسك في ترف الحياة . ولذلك يقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ … } [ الإسراء : 27 ] . وللإسلام نظرته الواعية في الاقتصاديات ، فالحق يريد منك أنْ تنفق ، ويريد منك ألاَّ تُسرِف وبين هذين الحدَّيْن تسير دَفّة المجتمع ، ويدور دولاب الحياة ، فإنْ بالغتَ في حَدٍّ منهما تعطلتْ حركة الحياة ، وارتبك المجتمع وبارت السلع . وقد أوضح الحق سبحانه هذه النظرة في قوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . فربُّك يريد منك أنْ تجمع بين الأمرين لأن التقتير والإمساك يُعطِّل حركة الحياة ، والإسراف يُجمِّد الحياة ويحرمك من الترقي ، والأخذ بأسباب الترف لذلك قال تعالى : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] . وقد يكون الإسراف من ناحية أخرى : فربُّك عز وجل خلقك ، وخلق لك مُقوِّمات حياتك ، وحدَّد لك الحلال والحرام ، فإذا حاولتَ أنت أنْ تزيد في جانب الحلال مما حرمه الله عليك ، فهذا إسراف منك ، وتجاوز للحدِّ الذي حَدَّه لك ربك ، تجاوزتَ الحدَّ فيما أحلَّ لك ، وفيما حرَّم عليك . وقد يأتي الإسراف من ناحية أخرى : فالشيء في ذاته قد يكون حلالاً ، لكن أنت تأخذه من غير حِلِّة . فإذا نقلنا المسألة إلى التكاليف وجدنا أن الله تعالى أحلَّ أشياء وحرَّم أشياء ، فلا تنقل شيئاً مما حُرِّم إلى شيء أحلَّ ، ولا شيئاً مما أُحلَّ إلى شيء حُرِّم ، كما قال سبحانه : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ … } [ الأعراف : 32 ] . وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … } [ التحريم : 1 ] . إذن : فربّك لا يُضيِّق عليك ، وينهاك أنْ تُضيِّق على نفسك وتُحرّم عليها ما أحلَّ لها ، كما يلومك على أنْ تُحلِّل ما حرّم عليك لأن ذلك في صالحك . وكما يكون الإسراف في الطعام والشراب وهما من مُقوِّمات استبقاء الحياة ، يكون كذلك في استبقاء النوع بالزواج والتناسل ، إلى أنْ تقوم الساعة ، فجعل الحق سبحانه للممارسة الجنسية حدوداً تضمن النسل والاستمتاع الحلال ، فمَنْ تعدَّى هذه الحدود فقد أسرف . ومن رحمته تعالى أنه يغفر لِمنْ أسرف على نفسه شريطةَ أن يكون مؤمناً : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ … } [ الزمر : 53 ] . وقوله تعالى : { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ . . } [ طه : 127 ] فأنزل الإسراف منزلةَ تالية لعدم الإيمان لذلك قال بعدها : { وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّه … } [ طه : 127 ] لأنه حين ينقل الحلال إلى الحرام ، أو الحرام إلى الحلال ، فكأنه عطّل آيات الله . ثم يقول تعالى : { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } [ طه : 127 ] إذن : فالكلام هنا عن الدنيا ، فلا تظن أن الله يُؤخِّر للكافر كُلَّ العذاب ، فهناك أشياء تُعجِّل له في الدنيا لا تُؤخَّر . وأول مَا لا يُؤخَّر ويُعجل الله به في الدنيا عقوبة الظلم ، فلا يمكن أنْ يموتَ الظالم قبل أن يرى المظلوم ما صنعه الله به ، وإلاّ فالذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالجزاء كانوا فجروا في الخَلْق وَعاثُوا في الأرض ، فمن حكمة الله أن نرى لكل ظالم مصرعاً حتى تستقيم حركة الحياة ، ولو لم يكُنْ الإنسان مؤمناً . والحق سبحانه حين يريد أنْ يُعذِّب يتناسب تعذيبه مع قدرته تعالى ، كما أن ضربة الطفل غير ضربة الشاب القوي . إذن : مَا يناله من عذاب في الحياة هين لأنه من الناس ، أمّا عذاب الآخرة فشيء آخر لأنه عذاب من الله يتناسب مع قدرته تعالى . { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } [ طه : 127 ] أبْقَى لأن عذاب الدنيا ينتهي بالموت ، أو بأن يرضى عنك المعذِّب ويرحمك ، وقد يتوسط لك أحد فيزيل عنك العذاب ، أمّا في الآخرة فلا شيء من ذلك ، ولا مفرَّ من العذاب ولا مَلْجأ . ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ … } .