Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 14-14)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الآية قبل السابقة خاطبه ربه : { إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 12 ] ليُطمئنه ويُؤنسه بأنه المربِّي العطوف ، يعطي حتى للكافر الذي يعصاه ، لكن هنا يخاطبه بقوله : { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ } [ طه : 14 ] أي : صاحب التكاليف ، والمعبود المطاع في الأمر والنهي ، وأوّل هذه التكاليف وقمّتها ، والينبوع الذي يصدر عنه كل السلوك الإيماني : { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } [ طه : 14 ] . لذلك قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : " خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله " . وما دام لا إله إلا هو فلا يصح أنْ نتلقَّى الأمر والنهي إلاَّ منه ، ولا نعتمد إلا عليه ، ولا يشغل قلوبنا غيره ، وهو سبحانه يريد منا أنْ نكون وكلاء : { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] . فالناصح الفطن الذي لا يتوكل على أحد غير الله ، فربما توكّلت على أحد غيره ، فأصبحت فلم تجده ، وصدق الشاعر حين قال : @ اجْعَلْ بربِّكَ كُلَّ عِزِّكَ يسْتقِرُّ وَيثبتُ فَإِذَا اعْتَززْتَ بمَنْ يموتُ فإنَّ عِزَّكَ ميِّتُ @@ فكأن الحق سبحانه في قوله : { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } [ طه : 14 ] يقول لموسى : لا تخفْ ، فلن تتلقى أوامر من غيري ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] . أي : لذهبَ هؤلاء الذين يدَّعُون الألوهية إلى الله يجادلونه أو يتودَّدون إليه ، ولم يحدث شيء من هذا . ويشترط فيمن يُعطي الأوامر ويُشرِّع ويُقنِّن ألاَّ ينتفع بشيء من ذلك ، وأن تكون أوامره ونواهيه لمصلحة المأمورين ، ومن هنا يختلف قانون الله عن قانون البشر الذي يدخله الهوى وتخالطه المصالح والأغراض ، فمثلاً إنْ كان المشرِّع والمقنِّن من العمال انحاز لهم ورفعهم فوق الرأسماليين ، وإن كان من هؤلاء رفعهم فوق العمال . وكذلك ألاَّ يغيب عنه شيء يمكن أنْ يُستدرك فيما بعد ، وهذه الشروط لا توجد إلا في التشريع الإلهي ، فله سبحانه صفات الكمال قبل أن يخلق الخَلْق . لذلك قال بعدها : { فَٱعْبُدْنِي } [ طه : 14 ] بطاعة أوامري واجتناب نواهيَّ ، فليس لي هَوَى فيما آمرك به ، إنما هي مصلحتك وسلامتك . ومعنى العبادة : الناس يظنون أنها الصلاة والزكاة والصوم والحج ، إنما للعبادة معنى أوسع من ذلك بكثير ، فكلُّ حركة في الحياة تؤدي إلى العبادة ، فهي عبادة كما نقول في القاعدة : كُلُّ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب . فالصلاة مثلاً لا تتم إلا بستْر العورة ، وعليك أنْ تتأمل قطعة القماش هذه التي تستر بها عورتك : كم يد ساهمتْ فيها منذ كانتْ بذرة في الأرض ، إلى أنْ أصبحتْ قماشاً رقيقاً يستر عورتك ؟ فكلُّ واحد من هؤلاء كان في عبادة وهو يُؤدِّي مهمته في هذه المسألة . كذلك رغيف العيش الذي تأكله ، صنبور المياه الذي تتوضأ منه ، كم وراءها من أيادٍ وعمال ومصانع وعلماء وإمكانات جُنِّدَتْ لخدمتك ، لتتمكن من أداء حركتك في الحياة ؟ لذلك ، فالحق - تبارك وتعالى - حينما يُحدِّثنا عن الصلاة يوم الجمعة يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 9 - 10 ] . وهكذا أخرجنا إلى الصلاة من عمل ، وبعد الصلاة أمرنا بالعمل والسعي والانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ، فمخالفة الأمر في : { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] كمخالفة الأمر في : { فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] . وخَصَّ البيع هنا لأن البائع أحرص على بيْعه من المشتري على شرائه ، وربما كان من مصلحة المشتري ألاَّ يشتري ؟ فالإسلام - إذن - لا يعرف التكاسل ، ولا يرضى بالتنبلة والقعود ، ومَنْ أراد السكون فلا ينتفع بحركة متحرِّك . وسيدنا عمر - رضي الله عنه - حينما رأى رجلاً يقيم بالمسجد لا يفارقه سأل : ومَنْ ينفق عليه ؟ قالوا : أخوه ، قال : أخوه أعبد منه . لماذا ؟ لأنه يسهم في حركة الحياة ويوسع المنفعة على الناس . إذن : فكلُّ عمل نافع عبادة شريطة أنْ تتوفر له النية ، فالكافر يعمل وفي نيته أنْ يرزق نفسه ، فلو فعل المؤمن كذلك ، فما الفرق بينهما ؟ المؤمن يعمل ، نعم لِيقوتَ نفسه ، وأيضاً ليُيسِّر لإخوانه قُوتَهم وحركة حياتهم . فسائق التاكسي مثلاً إذا عمل بمبلغ يكفيه ، ثم انصرف إلى بيته ، وأوقف سيارته ، فمَنْ للمريض الذي يحتاج مَنْ يُوصِّله للطبيب ؟ والبائع لو اكتسب رزقه ، ثم أغلق دكانه مَنْ يبيع للناس ؟ إذن : اعمل لنفسك ، وفي بالك أيضاً مصلحة الغير وحاجتهم ، فإنْ فعلتَ ذلك فأنت في عبادة . تعمل على قَدْر طاقتك ، لا على قَدْر حاجتك ، ثم تأخذ حاجتك من منتوج الطاقة ، والباقي يُرَدُّ على الناس إما في صورة صدقة ، وإما بثمن ، وحَسْبك أنْ يسرت له السبيل . إذن : نقول : العبادة كل حركة تؤدي خدمة في الكون نيتك فيها لله . ثم يقول تعالى : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] فلماذا خَصَّ الصلاة دون سائر العبادات ؟ قالوا : لأن الصلاة هي العبادة الدائمة التي لا تنحلّ عن المؤمن ، ما دام فيه نَفَس ، فالزكاة مثلاً تسقط عن الفقير ، والصيام يسقط عن المريض ، والحج يسقط عن غير المستطيع ، أمّا الصلاة فلا عذر أبداً يبيح تركها ، فتصلي قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً ، فإنْ لم تستطيع تصلي ، ولو إيماءً برأسك أو بجفونك ، فإنْ لم تستطع فحَسْبُك أن تخطرها على قلبك ، ما دام لك وَعْي ، فهي لا تسقط عنك بحال . كذلك ، فالصلاة عبادة مُتكرِّرة : خمس مرات في اليوم والليلة لتذكرك باستمرار إنْ أنستْك مشاغل الحياة رب هذه الحياة ، وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم . وما بالك بآلة تُعرَض على صانعها هكذا ، أيمكن أن يحدث بها عُطّْل أو عَطَب ؟ أما الزكاة فهي كل عام ، أو كل محصول ، والصوم شهر في العام ، والحج مرة واحدة في العمر . لذلك ، كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حَزَبه أمر قام إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه وخالقه عز وجل ، ونحن نصنع هذا في الصنعة المادية حين نعرض الآلة على صانعها ومهندسها الذي يعرف قانون صيانتها . وفي الحديث الشريف : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وسبق أن ذكرنا أن للصلاة أهميتها لأنها تُذكِّرك بربك كل يوم خمس مرات ، وتُذكِّرك أيضاً بنفسك ، وبقَدر الله في الآخرين حين ترى الرئيس ومرؤوسه جَنْباً إلى جَنْب في صفوف الصلاة ، فإنْ جئتَ قبل رئيسك جلستَ في الصف الأول ، وجلس هو خلفك ، ثم تراه وهو منُكسِر ذليل لله تعالى ، وهو يعرف أنك تراه على هذه الهيئة فيكون ذلك أدْعى لتواضعه معك وعدم تعاليه عليك بعد ذلك . وكم رأينا من أصحاب مناصب وقيادة يبكون عند الحرم ، ويتعلقون بأستار الكعبة وعند الملتزم ، وهو العظيم الذي يعمل له الناس ألف حساب . ففي الصلاة - إذن - استطراق للعبودية لله تعالى . لذلك من أخطر ما مُنِي به المسلمون أنْ تجعلَ في المسجد أماكن خاصة لنوعية معينة يُخلَى لها المكَان ، ويصاحبها الحرس حتى في بيت الله ، ثم يأتي في آخر الوقت ويجلس في الصف الأول ، وآخر يفرش سجادته ليحجز بها مكاناً لحين حضوره ، فيجد المكان خالياً . وينبغي على عامة المسلمين أن يرفضوا هذا السلوك ، وعليك أنْ تُنحِّي سجادته جانباً ، وتجلس أنت لأن أولوية الجلوس بأولوية الحضور ، فقد صفها الله في المسجد إقبالاً عليه . وهذه العادة السيئة تُوقع صاحبها في كثير من المحظورات ، حيث يتخطى رقاب الناس ، ويُميِّز نفسه عنهم دون حق ، ويحدث انتقاص عبودي في بيت الله . ولأهمية الصلاة ومكانتها بين العبادات تميِّزت في فرضها بما يناسب أهميتها ، فكُلُّ العبادات فُرِضَتْ بالوحي إلا الصلاة ، فقد استدعى الحق رسوله الصدق ليبلغه بها مباشرة لأهميتها . وقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - بالرئيس إذا أراد أنْ يُبلِّغ مرؤوسه أمراً يكتب إليه ، فإنْ كان الأمر مهماً اتصل به تليفونياً ، فإنْ كان أهمّ استدعاه إليه لِيُبلِّغه بنفسه . ولما قرَّبه الله إليه بفرض الصلاة جعل الصلاة تقرُّباً لعباده إلى الله . وقوله : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] أقام الشيء : جعله قائماً على أُسس محكمة ، فإقامة الصلاة أن تؤديها مُحكَمة كاملة الأركان غير ناقصة . { لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] أي : لتذكري لأن دوام ورتابة النعمة قد تُنسيك المنعم ، فحين تسمع نداء الله أكبر ، وترى الناس تُهرَع إلى بيوت الله لا يشغلهم عنها شاغل تتذكر إنْ كنتَ ناسياً ، وينتبه قلبك إنْ كنتَ غافلاً . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا … } .