Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 54-54)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كُلُوا : تدل على أن الخالق عز وجل خلق الحياة ، وخلق مقومات الحياة ، وأولها القوت من الطعام والشراب ، وهذه المقوّمات تناسبت فيها الملكية مع الأهمية ، فالقوت أولاً ، ثم الماء ، ثم الهواء . فأنت تحتاج الطعام وتستطيع أن تصبر عليه شهراً على قَدْر ما يختزن في جسمك من شحم ولحم ، يتغذّى منها الجسم في حالة فقد الطعام لأنك حين تأكل تستهلك جزءاً من الطعام في حركتك ، ثم يُختزن الباقي في صورة دهون هي مخزن الغذاء في الجسم ، فإذا ما نفد الدُّهْن امتصَّ الجسم غذاءه من اللحم ، ثم من العظم ، فهو آخر مخازن الغذاء في جسم الإنسان . لذلك لما أراد سيدنا زكريا عليه السلام أن يعبر عن ضعفه ، قال : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي … } [ مريم : 4 ] . لذلك تجد كثيراً ما يُتملّك الغذاء لأنك تصبر عليه مدة طويلة تُمكِّنك من الاحتيال في طلبه ، أو تُمكِّن غيرك من مساعدتك حين يعلم أنك محصور جوعان . أما الماء فلا تصبر عليه أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة لذلك قليلاً ما يُملِّك الماء لأحد . أما الهواء فلا تصبر عليه أكثر من نفَس واحد ، فمن رحمة الله بعباده ألاَّ يُملِّك الهواء لأحد ، وإلاّ لو غضب عليك صاحب الهواء ، فمنعه عنك لمتّ قبل أنْ يرضى عنك ، وليس هناك وقت تحتال في طلبه . وقوله تعالى : { وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ … } [ طه : 54 ] لأنها تحتاج أيضاً إلى القُوت ، وقال تعالى في أية أخرى : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [ النازعات : 33 ] ثم يصبّ الجميع في أن يكون متاعاً للإنسان الذي سخّر الله له كل هذا الكون . وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } [ طه : 54 ] . آيات : عجائب . والنُّهَى : جمع نُهية مثل قُرَبْ جمع : قُرْبة . والنُّهَى : العقول ، وقد سمّاها الله تعالى أيضاً الألباب ، وبها تتم عملية التدبير في الاختيارات . والعقل من العقال الذي تعقل به الدابة حتى لا تشرد منك ، وكذلك العقل لم يُخلَق لك كي تشطح به كما تحب ، إنما لتعقل غرائزك ، وتحكمها على قَدْر مهمتها في حياتك ، فغريزة الأكل مثلاً لبقاء الحياة ، وعلى قَدّْر طاقة الجسم ، فإنْ زادت كانت شراهة مفسدة . وقد جُعل حُبُّ الاستطلاع للنظر في الكون وكَشْف أسراره وآيات الله فيه ، فلا ينبغي أنْ تتعدّى ذلك ، فتتجسس على خَلْق الله . وسُمِّيَتْ العقول كذلك النُّهَى ، لأنها تنهى عن مثل هذه الشطحات . إذن : فلا بد للإنسان من عقل يعقل غرائزه ، حتى لا تتعدى المهمة التي جُعلَتْ لها ، ويُوقِفها عند حَدِّها المطلوب منها ، وإلا انطلقتْ وعربدتْ في الكون ، لا بُدَّ للإنسان من نُهية تنهاه وتقول له : لا لشهوات النفس وأهوائها ، وإلاّ فكيف تُطلِق العنان لشهواتك ، ولست وحدك في الكون ؟ وما الحال لو أطلق غيرك العنان لشهواتهم ؟ وسُمِّي العقل لُبّاً ، ليشير لك إلى حقائق الإشياء لا إلى قشورها ، ولتكون أبعد نظراً . وأعمق فكراً في الأمور . فحين يأمرك أن تعطي شيئاً من فضل مالك للفقراء ، فسطحية التفكير تقول : لا كيف أتعب وأعرق في جمعه ، ثم أعطيه للفقير ؟ وهو لم يفعل شيئاً ؟ أما حين تتعمق في فَهْم الحكمة من هذا الأمر تجد أن الحق - تبارك وتعالى - قال لك : أعط المحتاجين الآن وأنت قادر حتى إذا ما احتجتَ تجد مَنْ يعطيك ، فقد يصير الغني فقيراً ، أو الصحيح سقيماً ، أو القوي ضعيفاً ، فهذه سنة دائرة في الخَلْق متداولة عليهم . وحين تنظر إلى تقييد الشرع لشهواتك ، فلا تنسَ أنه قيَّد غيرك أيضاً بنفس المنهج وبنفس التكاليف . فحين يقول لك : لا تنظر إلى محارم الناس وأنت فرد فهو في نفس الأمر يكون قد أمر الناس جميعاً ألاّ ينظروا إلى حرماتك . وهكذا جعل الخالق عز وجل آلة العقل هذه ، لا لنعربد بها في الكون ، إنما لنضبط بها الغرائز والسلوك ، ونحرسها من شراسة الأهواء ، فيعتدل المجتمع ويسْلَم أفراده . وإلاَّ فإذا سمحتَ لنفسك بالسرقة ، فاسمح للآخرين بالسرقة منك ! ! إذن : فمن مصلحتك أنت أنْ يوجد تقنين ينهاك ، ومنهج يُنظِّم حياتك وحياة الآخرين . والحق سبحانه يقول : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ … } .