Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 55-55)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نلحظ هنا أن موسى - عليه السلام - يعرض على فرعون قضايا لا تخصُّ فرعون وحده ، إنما تمنع أنْ يوجد فرعون آخر . وقوله : { مِنْهَا … } [ طه : 55 ] أي : من الأرض التي سبق أنْ قال عنها : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً … } [ طه : 53 ] . ثم ذكر لنا مع الأرض مراحل ثلاث : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } [ طه : 55 ] . وفي آية أخرى يذكر مرحلة رابعة ، فيقول : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [ الأعراف : 25 ] . بذلك تكون المراحل أربعة : منها خلقناكم ، وفيها تحيَوْن ، وإليها تُرجعون بالموت ، ومنها نُخرجكم بالبعث . فقوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ … } [ طه : 55 ] الخلْق قِسْمان : خَلْق أولي ، وخَلْق ثانوي ، الخلق الأَوليّ في أدم عليه السلام ، وقد خُلِق من الطين أي : من الأرض . ثم الخَلْق الثاني ، وجاء من التناسل ، وإذا كان الخَلْق الأَوّلي من طين ، فكل ما ينشأ عنه يُعَدّ كذلك لأنه الأصل الأول . ويمكن أن نُوجِّه الكلام توجيهاً آخر ، فنقول : التناسل يتولد من ميكروبات الذكورة وبويضات الأنوثة ، وهذه في الأصل من الطعام والشراب ، وأصله أيضاً من الأرض . إذن : فأنت من الأرض بواسطة أو بغير واسطة . وإنْ كانت قضية الخَلْق هذه قضية غيبية ، فقد ترك الخالق في كونه عقولاً تبحث وتنظر في الكون ، وتعطينا الدليل على صِدْق هذه القضية ، فلما حلّل العلماء طينة الأرض وجدوها ستة عشر عنصراً تبدأ بالأكسوجين ، وتنتهي بالمنجنيز ، وحين حلّلوا عناصر الإنسان وجدوها نفس العناصر الستة عشر ، ليثبتوا بذلك البحث التحليلي صِدْق قضية الخَلْق التي أخبر عنها الخالق عز وجل . وقوله : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ … } [ طه : 55 ] هذه مرحلة مشاهدة ، فكُلُّ مَنْ يموت مِنّا ندفنه في الأرض لذلك يقول الشاعر : @ إنْ سَئِمْتَ الحياةَ فَارْجِعْ إلَى الأرْضِ تَنَمْ آمِناً مِنَ الأوْصَاب هِيَ أُمٌّ أحْنَى عَليْكَ مِنَ الأم التي خَلَّفتْك للإتْعَابِ @@ فبعد أن تُنقض بنية الإنسان بالموت لا يسارع إلى مواراته التراب إلا أقرب الناس إليه ، فترى المرأة التي مات وحيدها ، وأحب الناس إليها ، والتي كانت لا تطيق فراقه ليلة واحدة ، لا تطيق وجوده الآن ، بل تسارع به إلى أمه الأصيلة الأرض . وذلك لأن الجسد بعد أنْ فارقته الروح سرعان ما يتحول إلى جيفة لا تطاق حتى من أمه وأقرب الناس إليه ، أما الأرض فإنها تحتضنه وتمتصُّ كل ما فيه من أذى . ومن العجائب في نَقْض بنية الإنسان بالموت أنها تتم على عكس بنائه ، فعندما تكلم الخالق عز وجل عن الخلق الأول للإنسان قال : إنه خلق من تراب ، ومن طين ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصال كالفخار . وقلنا : إن هذه كلها أطوار للمادة الواحدة ، ثم بعد ذلك ينفخ الخالق فيه الروح ، فتدبّ فيه الحياة . فإذا ما تأملنا الموت لوجدناه على عكس هذا الترتيب ، كما أنك لو بنيتَ عمارة من عِدَّة أدوار ، فآخر الأدوار بناءً أولها هَدْماً . كذلك الموت بالنسبة للإنسان يبدأ بنزع الروح التي وُضِعَتْ فيه آخراً ، ثم يتصلّب الجسد ويشضب كالصلصال ثم يرمّ ، ويُنتن كالحمأ المسنون ، ثم يتبخر ما فيه من ماء ، وتتحلل باقي العناصر ، فتصير إلى التراب . ثم يقول تعالى : { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } [ طه : 55 ] أي : مرة أخرى بالبعث يوم القيامة ، وهذا الإخراج له نظام خاصّ يختلف عن الإخراج الأول لأنه سيبدأ بعودة الروح ، ثم يكتمل لها الجسد . هذه كلها قضايا كونية تُلْقَى على فرعون عَلَّها تُثنيه عَمَّا هو عليه من ادّعاء الألوهية ، والألوهية تقتضي مألوهاً ، فالإله معبود له عابد ، فكيف يَدّعي الألوهية ، وليس له في الربوبية شيء ؟ فلا يستحق الألوهية والعبادة إلا مَنْ له الربوبية أولاً ، وفي الأمثال : اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا … } .