Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 76-76)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
عدن : أي إقامة . مِنْ عَدَنَ في المكان : أقام فيه ، فالمراد جنات أعِدَّتْ لإقامتك ، وفرْق بين أنْ تُعِد المكان للإقامة وأنْ تُعِدَّ مكاناً لعابر ، كما أن المكان يختلف إعداده وترفه حَسْب المُعِدْ وإمكاناته ، فالإنسان العادي يُعِد مكاناً غير الذي يعده عظيم من العظماء ، فما بالك إذنْ بمكان أعدّه لك ربك - عز وجل - بقدراته وإمكاناته ؟ وقوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا … } [ طه : 76 ] . نعلم أن الماء من أهم مقومات الحياة الدنيا ، فبه تنبت الأرض النبات ، وفيه تذوب العناصر الغذائية ، وبدونه لا تقوم لنا حياة على وجه الأرض . والحق سبحانه وتعالى ساعةَ يُنزِل مطراً من السماء قد لا ينتفع بالمطر مَنْ نزل عليه المطر ، فربما نزل على جبل مثلاً ، فالنيل الذي نحيا على مائه يأتي من أين ؟ من الحبشة وغيرها . لذلك جعل الخالق - عز وجل - كلمة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ … } [ طه : 76 ] رمزاً للخضرة وللنضارة وللنماء وللحياة السعيدة الهانئة ، حتى الإنسان وإنْ لم يكُنْ محتاجاً للطعام بأنْ كان شبعان مثلاً ، يجد لذة في النظر إلى الطبيعة الخضراء ، وما فيها من زرع وورود وزهور ، فليس الزرع للأكل فقط ، بل للنظر أيضاً ، وإنْ كنتَ تأكل في اليوم ثلاث مرات ، والأكل غذاء للجسم ، فأنت تتمتع بالمنظر الجميل وتُسَرُّ به كلما نظرتَ إليه ، والنظر متعة للروح ، وسرور للنفس . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنا : لا تقصروا انتفاعكم بنعم الله على ما تملكون ، فتقول مثلاً : لا آكل هذه الفاكهة لأنها ليست مِلْكي ، لأن هناك متعةً أخرى : { ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ … } [ الأنعام : 99 ] فقبل أن تأكل انظر ، فالنظر متعة ، وغذاء مستمر . فقوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ … } [ طه : 76 ] لأن ظاهرة جريان الأنهار في الدنيا وسيلة للخُضْرة والخِصْب والإيناع ، و { مِن تَحْتِهَا … } [ طه : 76 ] أي : أن الماء ذاتيّ فيها ، ونابع منها ، ليس جارياً إليك من مكان آخر ، ربما يُمنَع عنك أن تُحرم منه . لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ … } [ التوبة : 100 ] فتحتها أنهار جارية ، لكن مصدرها ومنبعها من مكان آخر . ونسب الجريان إلى النهر ، لا إلى الماء للمبالغة . فالنهر هو المجرى الذي يجري فيه الماء . ثم يقول تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا … } [ طه : 76 ] وهذا هو التأمين الحقّ للنعيم لأن آفة النعم أنْ تزولَ ، إمّا بأن تفوتها أنت أو تفوتك هي ، أما نعيم الجنة فقد سَلَّمه الله تعالى من هذه الآفة ، فهو خالد بَاقٍ ، لا يزول ولا يُزال عنه . { وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ } [ طه : 76 ] الزكاة : تُطلَق على الطهارة وعلى النماء ، فالطهارة : أن يكون الشيء في ذاته طاهراً ، والنماء : أنْ توجَد فيه خصوصية نمو فيزيد عَمَّا تراه أنت عليه . كما ترى مثلاً الورد الصناعي والورد الطبيعي في البستان ، وفيه المائية والنضارة والرائحة الطيبة والألوان المختلفة والنمو ، وكلها صفات ذاتية في الوردة ، على خلاف الورد الصناعي فهو جامد على حالة واحدة . وهذا هو الفرق بين صَنْعة البشر وصَنْعة الخالق للبشر لذلك كانت صنعة الله أخلد وأبقى ، وصدق الله العظيم حين قال : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] . وتلحظ أنه لم يَضِنّ عليك بصفة الخَلْق لأنك استعملتَ الأسباب وأَعملتَ الفكر ، فكان لك شيء من الخلق ، لكن ربَّك أحسنُ الخالقين لأنك خلقتَ من باطن خِلْقته ، خلقتَ من موجود ، وهو سبحانه يخلق من عدم ، خلقتَ شيئاً جامداً لا حياة فيه ، وخلق سبحانه شيئاً حياً نامياً ، يتكاثر بذاته . ومن هنا سُمِّي المال الذي تُخرجه للفقراء زكاةً لأنه يُطهِّر الباقي ويُنمِّيه . ومن العجائب أن الله تعالى سَمّى ما يخرج من المال زكاة ونماءً ، وسَمَّى زيادة الربا مَحْقاً . فمعنى : { وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ } [ طه : 76 ] أي : تطهَّر من المعاصي ، ثم نَمَّى نفسه ، ومعنى التنمية هنا ارتقاءات المؤمن في درجات الوصول للحق ، فهو مؤمن بداية ، لكن يزيد إيمانه وينمو ويرتقي يوماً بعد يوم ، وكلما ازداد إيمانه ازداد قُرْبه من ربه ، وازدادت فيوضات الله عليه . والطهارة للأشياء سابقة على تنميتها لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة . إذن : زكَّى نفسه : طهَّرها أولاً ، ثم يُنمِّيها ثانياً ، كمَنْ يريد التجارة ، فعليه أولاً أن يأتي برأس المال الطاهر من حلال ثم يُنمِّيه ، لكن لا تأتي برأس المال مُدنّساً ثم تُنمِّيه بما فيه من دَنَسٍ . وكلما نَمَّى الإنسانُ إيمانَهُ ارتقى في درجاته ، فكانت له الدرجات العُلاَ في الآخرة .