Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 81-81)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الطعام والشراب والهواء مُقوِّمات الحياة التي ضمنها الله عز وجل لنا ، والأمر بالأكل هنا للإباحة ، وليست فَرْضاً عليك أنْ تأكل إلا إذا أردتَ الإضراب عن الطعام إضراباً يضرُّ بحياتك فعندها تُجبر عليه . وقوله : { مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ … } [ طه : 81 ] خصَّ الطيبات لأن الرزق : منه الطيب ، ومنه غير الطيّب ، فالرزق : كُلّ ما انتفعتَ به ولو كان حراماً . بمعنى أن ما نِلْتَه من الحرام هو أيضاً من رزقك إلا أنك تعجَّلته بالحرام ، ولو صبرْتَ عليه وعففْتَ نفسك عنه لَنِلْتَ أضعافه من الحلال . ثم يقول تعالى : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ … } [ طه : 81 ] وفي آية البقرة { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] فكأن ظلمَ النفس عِلَّته أنهم طَغَوْا في الأكل من الرزق . والطغيان : من طغى الشيء إذا زاد عن حَدِّه المألوف الذي ينتفع به ، ومنه طغيان الماء إذا زاد عن الحدِّ الذي يزيل الشَّرق والعطش إلى حَدِّ أنه يُغرق ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } [ الحاقة : 11 ] أي : تجاوز الحد الذي ينتفع به إلى العَطَب والهلاك . وهكذا في أي حَدٍّ ، لكن كيف تتأتى مجاوزة الحد في الطعام والأقوات ؟ الحق - تبارك وتعالى - لما خلق الأرض قدَّر فيها أقواتها إلى يوم القيامة ، فقال تعالى : { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 10 ] . فاطمئنوا إلى هذه المسألة ، وإذا رأيتم الأرض لا تعطي فلا تتهموها ، إنما اتهموا أنفسكم بالتقصير والتكاسل عن عمارة الأرض وزراعتها ، كما أمركم الله : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا … } [ هود : 61 ] . وقد غفلنا زمناً عن هذه المسألة ، حتى فاجأتنا الأحداث بكثرة العدد وقِلَّة المدد ، فكان الخروج إلى الصحراء وتعميرها . وما دام أن الخالق - عز وجل - خلق لنا أرزاقنا ومُقوِّمات حياتنا ، وجعلها مناسبة لهذا الإنسان الذي كرّمه وجعله خليفة له في الأرض ، وجعل لهذا الرزق ولهذه المقوّمات حدوداً حدّها وبيَّنها هي الحلال ، فلا ينبغي لك بعد ذلك أن تتعدى هذه الحدود ، وتطغى في تناول طعامك وشرابك . ونحن نرى حتى الآلات التي صنعها البشر ، لكل منها وقودها الخاص ، وإذا أعطيتها غيره لا تؤدي مهمتها ، فمثلاً لو وضعت للطائرة سولاراً لا تتحرك ، فليس هو الوقود المناسب لطبيعتها . إذن : حدودك في مُقوِّمات حياتك الحلال ، ولو استقرأنا ما أحلَّ الله وما حرَّم لوجدنا الأصل في الأشياء أنها حلال ، والكثير هو المحلل لك ، أما المحرم عليك فهو القليل المحصور الذي يمكن تحديده . لذلك يقول عز وجل : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ … } [ الأنعام : 151 ] ولم يقُلْ مثلاً في آية أخرى : تعالوا أَتْلُ ما أحل الله لكم لأنها مسألة تطول ولا تحصى . إذن : ساعةَ أعطاك ربك قال لك : هذا رِزْقُك الحلال الخالص ، ومنه وقودك ومُقوِّمات حياتك ، وبه بقاؤك ونشاط حركتك . فلا تتعدَّ الحلال على كثرته إلى الحرام على قِلَّته وانحصاره في عِدَّة أنواع ، بيَّنها لك وحذَّرك منها . وبالغذاء تتم في الجسم عملية الأَيْض يعني : الهدم والبناء ، وهي عملية مستمرة في كل لحظة من لحظاتك ، فإياك أنْ تبني ذَرَّة من ذراتك من الحرام لأن ذرة الحرام هذه تظل تُشاغبك وتُلِح عليك كي تُوقِعك في أصلها . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، ثم يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، فأنَّى يُستجاب لذلك " . ذلك لأن ذرات بنائه غير منسجمة ، لأنها نَمتْ على وقودٍ ما أحله الله له . لذلك تسمع من بعض المتمحكين : ما دام أن الله خلق الخنزير فلماذا حرَّمه ؟ نقول : لقد فهمتَ أن كل مخلوق خُلِق ليؤكل ، وهذا غير صحيح ، فالله خلق البترول الذي تعمل به الآلات ، أتستطيع أن تشربه كالسيارة ؟ إذن : فَرْق بين شيء مخلوق لشيء ، وأنت توجهه لشيء آخر ، هذه تسمى إحالة أي : تحويل الشيء إلى غير ما جُعِل له ، وهذا هو الطغيان في القُوت لأنك نقلتَ الحرام إلى الحلال . وقد يأتي الطغيان في صورة أخرى ، كأن تأكل ما أحلَّ الله من الطيبات ، لكنك تحصل عليها بطريق غير مشروع ، وتُعوِّد نفسك الكسل عن الكسْب الحلال ، فتأخذ مجهود غيرك وتعيش عالةً عليه ، فإلى جانب أنك تتغذَّى على الحرام فأنت أيضاً تُزهّد غيرك في الحركة والإنتاج والمِلك ، وما فائدة أن يتعب الإنسان ويأخذ غيره ثمرة تعبه ؟ وقد أخذ الطغيان بهذا المعنى صُوراً متعددة في مجتمعاتنا ، فيمكن أن ندرج تحته : الغصب ، والخطف ، والسرقة ، والاختلاس ، والرشوة ، وخيانة الأمانة ، وخداع مَن استأجرك إلى غير ذلك من أخْذ أموال الناس بالباطل ودون وَجْه حق ، وكل عمل من هذه التعديات له صورته . فالخطف : أنْ تخطف مال غيرك دون أنْ يكون في متناول يد المخطوف منه ثم تَفِر منه ، فإنْ كان في متناول يده وأنت غالبته عليه ، وأخذته عُنْوةً فهو غَصْب مأخوذ من : غَصْب الجلد عن الشاة أي : سلخه عنها . فإنْ كان أخذ المال خُفْية وهو في حِرْزه فهي سرقة . وإن كنت مُؤتمناً على مال بين يديك فأخذتَ منه خفية فهو اختلاس … الخ . إذن : أحل الله لك أشياءً ، وحرَّم عليك أخرى ، فإنْ كان الشيء في ذاته حلالاً فلا تأخذه إلا بحقِّه حتى يحترم كل مِنّا عمل الآخر وحركته في الحياة وملكيته للأشياء ، وبذلك تستقيم بِنَا حركة الحياة ، ويسعد الجميع ونعين المنفق ، ونأخذ على يد المتسيِّب البلطجي . وللإسلام منهج قويم في القضاء على مسألة البطالة ، تأخذ به بعض النظم الحديثة الآن ، وهو أن الشرع يأمر للقضاء على البطالة أن تحفر بئراً وتطُمَّها : أي احفرها وأرْدِمها ثم اعْطِ الأجير فيها أجره . كيف هذا ؟ تحفر البئر ولا تستفيد منها وتردمها فما الفائدة ؟ ولماذا لم نعط الأجير أجره دون حفر ودون ردم ؟ قالوا : حتى لا يتعوَّد على الخمول والكسل ، وحتى لا يأكل إلاّ من عرقه وكَدَّه ، وإلا فسد المجتمع . وللطغيان في القوت صورة أخرى ، هي أن تستخدم القوت الذي جعله الله طاقة لك في حركة الحياة النافعة ، فإذا بك تصرف هذه الطاقة التي أنعم الله بها عليك في معصيته . وهكذا ، كان الطغيان هو علّة { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ … } [ النحل : 118 ] أي : بالعقوبة { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] أي : بالطغيان . ثم يقول تعالى : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي … } [ طه : 81 ] الفعل : حَلَّ ، يحلّ يأتي بمعنى : صار حلالاً ، كما تقول للسارق : حلال فيه السجن . وتأتي حلَّ يحل بمعنى : نزل في المكان ، تقول : حَلَّ بالمكان أي : نزل به . فيكون المعنى : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي … } [ طه : 81 ] أي : صار حلالاً ، ووجب لكم ، أو بمعنى : ينزل بكم . وقد يكون المعنى أعمَّ من هذا كله . والغضب انفعال نفسيٌّ يُحدِث تغييراً في كيماوية الجسم ، فترى الغاضب قد انتفختْ أوداجه واحمرَّ وجهه ، وتغيّرت ملامحه ، فهذه أغيار تصاحب هذا الانفعال . فهل غضب الله عز وجل من هذا النوع ؟ بالطبع لا لأنه تعالى ليس عنده أغيار ، وإذا كان الغضب يتناسب وقدرة الغاضب على العذاب ، فما بالك إنْ كان الغضب من الله ؟ ثم يقول تعالى : { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ } [ طه : 81 ] مادة : هَوَى لها استعمالان ، الأول : هَوَى يهْوِي : يعني سقط من أَعْلى سقوطاً لا إرادةَ له في منعه ، كأن يسقطَ فجأة من على السطح مثلاً ، ومن ذلك قوله : @ هُوِىّ الدلو أَسْلَمَها الرِّشَاء @@ إذا انقطع الحبل الذي يُخرِج الدَّلُو . والآخر : هَوِىَ يَهْوَى : أي أحبَّ . فيكون المعنى { فَقَدْ هَوَىٰ } [ طه : 81 ] سقط إلى القاع سقوطاً لا يبقى له قيمة في الحياة ، أو هَوَى في الدنيا ، ويَهوي في الآخرة ، كما جاء في قوله تعالى : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 9 ] فأمه ومصدر الحنان له هاوية ، فكيف به إذا هوى في الهاوية ؟ هذه كلها عِظَات ومواعظ للمؤمن ، يُبيِّنها الحق - سبحانه وتعالى - له - كي يبني حركة حياته على ضَوْئها وهُدَاها . ولما كان الإنسان عُرْضة للأغيار لا يثبتُ على حال يتقلَّب بين عافية ومرض ، بين غِنىً وفقرٍ ، فكُلُّ ما فيه موهوب له لا ذاتيّ فيه ، لذلك إياك أن تحزن حين يفوتك شيء من النعمة لأنها لن تبقى ولن تدوم ، وهَبْ أنك بلغتَ قمة النعيم ، فماذا تنتظر إلا أنْ تزول ، كما قال الشاعر : @ إذَا تَمَّ شَيْءٌ بَدَا نَقْصُه تَرقَّبْ زَوَالاً إِذَا قِيلَ تَمّ @@ فإذا تَمَّ لك الشيء ، وأنت ابْنُ أغيار ، ولا يدوم لك حال فلا بُدَّ لك أن تنحدر إلى الناحية الأخرى . فكأن نقْصَ الإنسان في آماله في الحياة هي تميمة حراسة النِّعَم ، وما فيه من نَقْص أو عيب يدفع عنه حَسَد الحاسد ، كما قال الشاعر في المدح : @ شَخَصَ الأنَامُ إلى كَمَالِكَ فَاسْتِعذْ مِنْ شَرِّ أعينهِمْ بِعيْبٍ وَاحِدٍ @@ أي : أن الأعين متطلعة إليك ، فاصرفها عنك ، ولو بعيب واحد يذكره الناس وينشغلون به . وفي الريف يعيش بعض الفلاحين على الفطرة ، فإنْ رُزِق أحدهم بولد جميل وسيم يُلفِت نظر الناس إليه . وتراهم يتعمدون إهمال شكله ونظافته ، أو يضعونَ له فاسوخة دَفْعاً للحسد وللعين . لذلك ، فالمرأة التي دخلت على الخليفة ، فقالت له : أتمَّ الله عليك نعمته ، وأقرَّ عينك ، ففهم الحضور أنها تدعو له ، فلما خرجتْ قال الخليفة : أعرفتم ما قالت المرأة ؟ قالوا : تدعو لك ، قال : بل تدعو عليَّ ، فقد أرادت بقولها : أتمَّ الله عليك نعمته تريد أزالها لأن النعمة إذا تمت لم يَبْقَ لها إلا الزوال ، وقولها : أقَرَّ الله عينكَ تريد : أسكنها عن الحركة . إذن : لا تغضَب إنْ قالوا عنك : ناقص في كذا ، فهذا النقص هو تميمة الكمال ، ويريدها الله لك لمصلحتك أنت . وما دام الإنسان ابن أغيار ، فلا بُدَّ أنْ يغفل عن منهج الله ، فتكون له سَقَطات وهَفَوات تحتاج إلى غفران لذلك يقول تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ … } .