Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 16-16)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ربنا - سبحانه وتعالى - يعطينا المثل الأعلى في الخلْق لأن خَلْق السماوات والأرض مسألة كبيرة : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] فالناس تُولَد وتموت وتتجدد ، أمّا السماء والأرض وما بينهما من نجوم وكواكب فهو خلْق هائل عظيم منضبط ومنظوم طوال هذا العمر الطويل ، لم يطرأ عليه خَلَل أو تعطُّل . والحق سبحانه لا يمتنُّ بخَلْق السماء والأرض وما بينهما لأنها أعجب شيء ، ولكن لأنها مخلوقة للناس ومُسخَّرة لخدمتهم ، فالسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وهواء ومطر وسحاب والأرض وما عليها من خَيْرات ، بل وما تحتها أيضاً { وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } [ طه : 6 ] . الكل مخلوق لك أيها الإنسان ، حتى ما تتصوره خادماً لغيرك هو في النهاية يصبُّ عندك وبين يديك ، فالجماد يخدم النبات ، والنبات يخدم الحيوان ، وكلهم يخدمون الإنسان . فإنْ كان الإنسان هو المخدوم الأعلى في هذا الكون فما عمله هو ؟ وما وظيفته في كون الله ؟ فكل ما دونك له مهمة يؤديها فما مهمتك ؟ إذن : إنْ لم يكن لك مهمة في الحياة فأإنت أتفه من الحيوان ، ومن النبات ، حتى ومن الجماد ، فلا بُدَّ أنْ تبحثَ لك عن عمل يناسب سيادتك على هذه المخلوقات . ثم هل سخَّرْتَ هذه المخلوقات لنفسك بنفسك ، أم سخَّرها الله وذلَّلها لخدمتك ؟ فكان عليك أن تلتفت لمن سخَّر لك هذه المخلوقات وهي أقوى منك ، ألك قدرة على السماء ؟ أتطول الشمس والقمر ؟ { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } [ الإسراء : 37 ] . إذن : كان يجب عليك أن تبحث بعقلك فيمَنْ سخَّر لك هذا كله ، كان عليك أنْ تهتدي إلى الخالق للسماء والأرض وما بينهما ، لأنه سبحانه ما خلقها عبثاً ، ولا خلقها للعب ، إنما خلقها من أجلك أنت . لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، خلقتُ الأشياء من أجلك ، وخلقتُك من أجلي ، فلا تنشغل بما هو لك عمن أنت له " . فالكون مملوك لك ، وأنت مملوك لله ، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك . فما الحكمة من خَلْق السماء والأرض وما بينهما ؟ الحكمة أن هذه المخلوقات لولاها ما كُنَّا نستدل على القوة القادرة وراء خَلْق هذه الأشياء ، وهو الخالق سبحانه ، فهي - إذن - لإثبات صفات الجلال والجمال لله عز وجل . فلو ادَّعَى أحد أنه شاعر - ولله المثل الأعلى - نقول له : أين القصيدة التي قلتها ؟ فلا نعرف أنه شاعر إلا من خلال شِعْره وآثاره التي ادَّعاها . وهي دعوى دون دليل ؟ ! وقد خلق الله هذا الخَلْق من أجلك ، وتركك تربَع فيه ، وخلقه مقهوراً مُسيَّراً ، فالشمس ما اعترضتْ يوماً على الشروق ، والقمر والنجوم والمطر والهواء والأرض والنبات كلها تعطي المؤمن والكافر والطائع والعاصي لأنها تعمل بالتسخير ، لا بالإرادة والاختيار . أما الإنسان هو المخلوق صاحب الاختيار في أن يفعل أو لا يفعل . ولو نظرتَ إلى هذا الكون لأمكنك أنْ تُقسِّمه إلى قسمين : قسم لا دَخْلَ لك فيه أبداً ، وهذا تراه منسجماً في نظامه واستقامته وانضباطه ، وقسم تتدخل فيه ، وهذا الذي يحدث فيه الخَلَل والفساد . قال الحق سبحانه وتعالى : { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ * وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ * لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 38 - 40 ] . فالكَوْن من حولك يسير بأمر خالقه ، منضبط لا يتخلف منه شيء ، فلو أخذتَ مثلاً سنة كاملة 365 يوماً ، ثم حاولتَ أنْ تعيدها في عام آخر لوجدتَ أن الشمس طلعتْ في اليوم الأول من نفس المكان ، وفي اليوم الثاني من نفس مكان اليوم الثاني ، وهكذا بدقة متناهية ، سبحان خالقها . لذلك فالذين يضعون التقويم لمعرفة الأوقات يضعون تقويم ثلاث وثلاثين سنة يُسجِّلون دورة الفلك ، ثم يتكرر ما سجَّلوه بانضباط شديد ، ومن ذلك مثلاً إذا حدَّد العلماء موعد الكسوف أو الخسوف أو نوعه جزئي أو حَلْقي ، فإذا ما تابعته وجدته منضبطاً تماماً في نفس موعده ، وهذا دليل على انضباط هذا الكون وإحكامه لأنه لا تدخلُّ لنا فيه أبداً . وفي المقابل انظر إلى أيِّ شيء للإنسان فيه تدخّل : فمثلاً نحن يكيل بعضنا لبعض ، ويزن بعضنا لبعض ، ويقيس بعضنا لبعض ، ويخبز بعضنا لبعض ، ويبيع بعضنا لبعض … الخ انظر إلى هذه العلاقات تجدها - إلاّ ما رحم الله - فاسدة مضطربة ، ما لم تَسِرْ على منهج الله ، فإن سارت على منهج الله استقامت كاستقامة السماء والأرض . إذن : كلما رأيتَ شيئاً فاسداً شيئاً قبيحاً فاعلم أن الإنسان وضع أنفه فيه . وكأن الخلق - عز وجل - يقول للإنسان : أنت لستَ أميناً حتى على نفسك ، فقد خلقتُ لك كل هذا الكون ، ولم يشذ منه شيء ، ولا اختلَّتْ فيه ظاهرة ، أمّا أنت - لأنك مختار - فقد أخللْتَ بنفسك وأتعبتها . فاعلم أن المسائل عندي أنا آمَنُ لك ، فإذا أخذتُك من دنيا الأسباب إلى الآخرة وإلى المسبِّب ، فأنا أمين عليك أُنعمك نعيماً لا تعبَ فيه ولا نصبَ ولا شقاء ، وإنْ كنت تخدم نفسك في الدنيا ، فأنا أخدمك في الآخرة ، وأُلبِّي لك رغبتك دون أن تُحرِّك أنت ساكناً . إذن : لو أنني شغلت نفسي بمَنْ يملكني وهو الله تعالى لاستقام لي ما أملكه . فهذا الكون وهذا الإيجاد خلقه الله لخدمة الإنسان ، فلماذا ؟ كأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول : لأنِّي يكفيني من خلقي أن يشهدوا مختارين أنه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، وإنْ كانت المخلوقات قد شهدتْ هذه الشهادة مضطرة ، فالعظمة أن يشهد المختار الذي يملك أنْ يشهد أو لا يشهد . كما أنني بعد أنْ أنعمتُ عليك كلَّ هذه النعم أنزلتُ إليك منهجاً بافعل كذا ولا تفعل كذا ، فإنْ أطعتَ أثبتك ، وإنْ عصيت عاقبتك ، وهذه هي الغاية من خَلْق السماء والأرض ، وأنها لم تُخلَق لعباً . وهذا المنهج تعرفه من الرسل ، والرسل يعرفونه من الكتاب . فلو كذَّبْتَ بالرسل لم تعرف هذه الأحكام ولم تعرف المنهج ، وبالتالي لا نستطيع أنْ نثيب أو نعاقب ، فيكون خَلْقُ السماء والأرض بدون غاية . ثم يقول الحق سبحانه : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً … } .