Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 18-18)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ما دام أنهم فعلوا اللهو واللعب ، وخانوا نِعَم الله في السماء والأرض فليعلموا أن هذا الحال لن يستمر ، فالحق سبحانه يُملي للباطل ويُوسع له حتى يزحف ويمتد ، حتى إذا أخذه أخْذ عزيز مقتدر ، وقذف عليه بالحق . فقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ … } [ الأنبياء : 18 ] القذف : الرَّمْي بشدة مثل القذائف المدمرة { فَيَدْمَغُهُ … } [ الأنبياء : 18 ] يقال : دمغه أي : أصاب دماغه . والدماغ أشرف أعضاء الإنسان ففيه المخ ، وهو ميزان المرء ، فإنْ كان المخ سليماً أمكن إصلاح أيِّ عطل آخر ، أما إنْ تعطل المخ فلا أملَ في النجاة بعده . لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - عَظْمة الدماغ أغوى عظام الجسم لتحفظ هذا العضو الهام ، والأطباء لا يحكمون على شخص بالموت - مثلاً - إذا توقف القلب لأن القلب يجري له تدليك معين فيعود إلى عمله كذلك التنفس ، أما إنْ توقف المخ فقد مات صاحبه ، فهو الخلية الأولى والتي تحتفظ بآخر مظاهر الحياة في الجسم لذلك يقولون : موت إكلينيكي . وللمخ يصل خلاصة الغذاء ، وهو المخدوم الأعلى بين الأعضاء ، فالجسم يأخذ من الغذاء ما يكفي طاقته الاحتراقية في العمل ، وما زاد على طاقته يُختزَن على شكل دهون يتغذّى عليها الجسم ، حين لا يوجد الطعام ، فإذا ما انتهى الدُّهْن تغذَّى على اللحم ، ثم على العَظْمِ لِيُوفِّر للمخ ما يحتاجه ، فهو السيد في الجسم ، ومن بعده تتغذّى باقي الأعضاء . إذن : كل شيء في الجسم يخدم المخ لأنه أَعْلَى الأعضاء ، أما النبات مثلاً فيخدم أسفله ، فإذا جَفَّ الماء في التربة ولم يجد النبات الغذاءَ الكافي يتغذى على أعلاه فيذبل أولاً ، ثم تتساقط الأوراق ، ثم تجفّ الفروع الصغيرة ، ثم الجذع ، ثم الجذر . ومن ذلك قول سيدنا زكريا عليه السلام : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً … } [ مريم : 4 ] فالعَظْم آخر مخزَن للغذاء في الجسم ، فَوهَنُ العظم دليل على أن المسألة أوشكتْ على النهاية . إذن : فقوله تعالى : { فَيَدْمَغُهُ … } [ الأنبياء : 18 ] أي : يصيبه في أهم الأعضاء وسيدها والمتحكم فيها ، لا في عضو آخر يمكن أنْ يُجبر لذلك يقول بعدها : { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ … } [ الأنبياء : 18 ] زاهق : يعني خارج بعنف . وقوله تعالى : { وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] يعني : أيها الإنسان المغتَرّ بلججه وعناده في الباطل ، ووقف بعقله وقلبه ليصادم الحق ، سنقذف بالحق على باطلك ، فنصيب دماغه فيزهق ، ساعتها ستقول : يا ويلتي كما سبق أنْ قالوا : { يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 14 ] حينما يباشرون العذاب . ومعنى : { تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] تكذبون كذباً افترائياً ، كما لو رأيت شخصاً جميلاً ، فتقول : وجهه يَصِفُ الجمال ، يعني : إنْ كنت تريد وَصْفاً للجمال ، فانظر إلى وجهه يعطيك صورة للجمال ، كما جاء في قوله تعالى : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ … } [ النحل : 62 ] يعني : إنْ أردت أنْ تعرف الكذب بعينه ، فاسمع كلامهم وما قالتْه ألسنتهم . كما يقولون : حديث خرافة ، وأصل هذه المقولة رجل اسمه خرافة ، كان يقول : أنا عندي سهم إنْ أطلقُته على الظَّبي يسير وراءه ، فإن التفت يميناً سار وراءه ، فإنْ ذهب شمالاً ذهب وراءه ، فإنْ صعد الجبل صعد وراءه ، فإنْ نزل نزل وراءه . وكأن سهمه صاروخ مُوجَّه كالذي نراه اليوم ! ! فسار كلامه مثالاً يُضرب للكذب . لذلك قال الشاعر : @ * حَدِيثُ خُرَافَةٍ يا أُمَّ عَمْرو * @@ فإنْ أردتَ تعريفاً للكذب فأنا لا أُعرِّفه لك بأنه قوْلٌ لا يوافق الواقع ، إنما اسمع إلى كلامهم ، فهو أصدق وَصْف للكذب لأنه كذب مكشوف مفضوح . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] أي : يكذبون ويفترون على الله . وقد يقول قائل : لماذا يُملِي الله للباطل حتى يتمرَّد ويعلو ، ثم يعلو عليه الحق فيدمغه ؟ نقول : الحكمة من هذا أنْ تتم الابتلاءات ، والناس لا تتعشق الحق إلا إذا رأتْ بشاعة الباطل ، ولا تعرف منزلة العدل إلا حين ترى بشاعة الظلم ، وبضدها تتميز الأشياء ، كما قال الشاعر : @ فَالوجْهُ مِثْلُ الصبُّحْ مُبيضٌ وَالشَّعْر مِثْلُ الليْلِ مُسْودُ ضِدَّان لَمَّا استْجمْعاً حَسُنَاً والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْنَه الضِّدُ @@ إذن : لا نعرف جمال الحق إلا بقُبْح الباطل ، ولا حلاوة الإيمان إلا بمرارة الكفر . { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } .