Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 47-47)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نقلهم الحق سبحانه من إنكار وتكذيب وتسفيه كلام الرسول ، وعدم الإيمان بالوحي ، وصَمِّ آذانهم عن الخير إلى مسألة الحساب والميزان القسط ، فلماذا هذه النَّقْلة ؟ ليُنبههم ويلفت أنظارهم إلى أن هذا الكلام الذي قابلتموه بالتكذيب والتشكيك كان لمصلحتكم ، وأن كل شيء محسوب ، وسوف يُوزَن عليكم ويُحْصَى ، وكأنه ينصحهم ، فما تزال رحمانية الله بهم وحِرْصه على نجاتهم . وكلمة موازين جمع : ميزان ، وهو آلة نُقدِّر بها الأشياء من حيث كثافتها ، لأن التقدير يقع على عدة أشياء : على الكثافة بالوزن ، وعلى المسافات بالقياس … الخ ، وقد جعلوا لهذه المعايير ثوابت ، فمثلاً : المتر صنعوه من البلاتين حتى لا يتآكل ، وهو موضوع الآن - تقريباً - في باريس ، وكذلك الياردة . وجعلوا للوزن معايير من الحديد : الكيلو والرطل … إلخ . وقديماً كانوا يَزِنُون قطعةً من الحجارة تساوي كيلو مثلاً ، ويستعملونها في الوزن لأن لها مرجعاً ، لكن هذه القطعة تتآكل من كثرة الاستعمال ، فلا بُدَّ من تغييرها . وهنا تكلَّم عن الشيء الذي يَوزَن ، ولم يذكر المعايير الأخرى ، قالوا : لأن الأشياء التي لها كثافة هي الأكثر ، وكانوا يختبرون الأولاد يقولون : كيلو الحديد أثقل ، أم كيلو القطن ؟ فالولد ينظر إلى القطن فيراه هَشَّاً مُنتفِشاً فيقول : القطن ، والقطن أزيد من الحديد في الحجم ، لكن كثافته يمكن أن تستطرق ، فنُرقّق القطن إلى أن يتحول إلى مساحة طول وعرض . إذن : العُمْدة في التقدير : الثقل . وفي موضع آخر قال تعالى : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7 ] فهل هي موازين متعددة ، أم هو ميزان واحد ؟ الخَلْق جميعاً سيُحاسبون مرة واحدة ، فلن يقفوا طابوراً ينتظر كل منهم دَوْره ، بل في وقت واحد لذلك لما سُئِل الإمام على - كرَّم الله وجهه : كيف يُحاسب الله الخَلْق جميعاً في وقت واحد ؟ قال : كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد . فالمسألة صعبة بالنسبة لك ، إنما سهلة ميسورة للحق سبحانه . والقِسْط : صفة للموازين ، وهي مصدر بمعنى عدل ، كما تقول في مدح القاضي : هذا قاضٍ عادل . أي : موصوف بالعدل ، فإذا أردتَ المبالغة تقول : هذا قاضٍ عَدْل ، كأنه هو نفسه عَدْل أي معجون بالعدل لذلك نقول في أسماء الحق سبحانه : الحكم العدل . ولا نقول : العادل . وهذه المادة قسط لها دور في اللغة ، فهي من الكلمات المشتركة التي تحمل المعنى وضده ، مثل الزوج تُطلق على الرجل والمرأة ، و العَيْن تطلق على العين : العين الباصرة ، وعلى عين الماء ، وعلى الجاسوس ، وعلى الذهب والفضة . كذلك القِسْط نقول : القِسْط بالكسر مثل : حِمْل بمعنى العدل من قَسَط قِسْطَاً . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [ المائدة : 42 ] ونقول : القَسْط بالفتح يعني : الظلم من قسط قُسوطاً وقَسْطاً ، ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] أي : الجائرون الظالمون . والقِسْط بمعنى العدل إذا حكم بالعدل أولاً وبداية ، لكن أقسط يعني كان هناك حكم جائر فعدَّله إلى حكم بالعدل في الاستئناف . ومن هذه المادة أيضاً قوله تعالى : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] فأقسط هنا : أفعل تفضيل ، تدل على أن حكم محمد صلى الله عليه وسلم في مسألة زيد كان عَدْلاً وقِسْطاً ، إنما حكم ربه تعالى هو أقسط وأعدل . ومعلوم من قصة زيد بن حارثة أنه فضَّل رسول الله واختاره على أهله ، وكان طبيعياً أنْ يكافئه رسول الله على محبته وإخلاصه ويُعوِّضه عن أهله الذين آثر عليهم رسولَ الله ، وكانت المكافأة أن سماه زيد بن محمد . إذن : الحق سبحانه عدل لرسوله ، لكن عدل له العدل لا الجوْر ، وعَدْل الله أَوْلى من عدل محمد لذلك قال : { أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] أما عندكم أنتم فقد صنع محمد عَيْن العَدْل . وقوله تعالى : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ … } [ الأحزاب : 5 ] جاء ليبطل التبني ليكون ذلك مقدمة لتشريع جديد في الأسرة والزواج والمحارم وأمور كثيرة في شرع الله لا تستقيم في وجود هذه المسألة ، وإلاّ فكيف سيكون حال الأسرة حين يكبر المتبنّي ويبلغ مَبْلغَ الرجال ؟ وما موقفه من الزوجة ومن البنت ، وهو في الحقيقة غريب عن الأسرة ؟ ومسألة الموازين هذه من المسائل التي وجد فيها المستشرقون تعارضاً في ظاهر الآيات ، فجعلوا منها مَأخَذاً على كتاب الله ، من ذلك قولهم بالتناقض بين الآيتين : { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ … } [ الأنبياء : 47 ] وقوله تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [ الكهف : 105 ] حيث أثبت الميزان في الأولى ، ونفاه في الثانية . وقلنا : إن هؤلاء معذورون لأنهم لا يملكون الملكَة اللغوية التي تمكِّنهم من فَهْم كلام الله . ولو تأملنا اللام في { نُقِيمُ لَهُمْ … } [ الكهف : 105 ] لانحلَّ هذا الإشكال ، فاللام للملك والانتفاع ، كما يقولون في لغة البنوك : له وعليه . والقرآن يقول : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ … } [ البقرة : 286 ] . فالمعنى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [ الكهف : 105 ] أي : وزناً في صالحهم ، إنما نقيم عليهم وندينهم . كذلك نجد أن كلمة الوزن تُستعمل في اللغة إمَّا لوزن الماديّ ، أو لوزن المعنى ، كما نقول : فلان لا وَزْنَ له في الرجال . وعلى هذا يكون المعنى : أنهم لا وَزْنَ لذواتهم ومادتهم ، إنما الوزن لأعمالهم ، فلا نقول : كان من الأعيان ، كان أصله كذا وكذا ، وهذه المسألة واضحة في قصة ابن نوح عليه السلام : { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] . فالبنوة هنا بُنوّة عمل وإيمان ، لا بُنوة ذات . وقد ظَنَّ الكفار والعصاة أن لهم وَزْناً عند الله ، ومنزلة ستكون لهم في الآخرة ، كما كانت لهم في الدنيا ، كما جاء في قصة صاحب الجنتين الذي قال لأخيه متباهياً مفتخراً . { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 34 - 36 ] . لكن هيهات أنْ يكون لهم وَزْنٌ في الآخرة ، فالوزن في القيامة للأعمال ، لا للأعيان . إذن : المعنى لا نقيم لذواتهم ، إنما نزن أعمالهم لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقرابته : " لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأحسابكم " . وقال صلى الله عليه وسلم : " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً " . فالذوات والأحساب والأنساب لا قيمة لها في هذا الموقف . وقوله تعالى : { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً … } [ الأنبياء : 47 ] مع أن القاعدة : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ … } [ البقرة : 194 ] وهؤلاء قد ظلموا الحق سبحانه ظُلْماً عظيماً حين أشركوا به ، وظلموا رسول الله لما قالوا عنه : ساحر ، وكاذب ومجنون ، ومع ذلك فلن نردّ هذا الاعتداء بمثله بظلمهم . وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا … } [ الأنبياء : 47 ] والخردل : مثال للصِّغَر ، للدلالة على استقصاء كل شيء ، ولا يزال الخردل هو المقياس العالمي للكيلو ، فقد وجدوا حَبَّ الخردل مُتَساوياً في الوزن ، فأخذوا منه وحدة الكيلو الآن ، وقد أتى بها القرآن منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان . ومعنى : { أَتَيْنَا بِهَا … } [ الأنبياء : 47 ] أي : لهم أو عليهم ، فإنْ كانت لهم علموا أنَّ الله لا يظلمهم ، ويبحث لهم عن أقلِّ القليل من الخير ، وإنْ كانت عليهم علموا أن الله يستقصي كل شيء في الحساب ، وحَبّة الخردل تدل على صِغَرها على الحجم ، وكلمة مثقال تدل على الوزن ، فجمع فيها الحجم والوزن . ثم يُعقِّب سبحانه على هذه المسألة : { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما نفعل نحن ، فليست عندنا غفلة بل دِقَّة وضبَطْْ لمعايير الحساب . ولا تظن أن مسألة الحساب والميزان مسألة سهلة يمكن أن تصل فيها إلى الدقة الكاملة مهما أخذتَ من وسائل الحيطة ، فأنت بشر لا تستطيع أنْ تزِنَ الوزن المضبوط لأن المعيار الحديد الذي تزن به عُرْضة في استعماله للزيادة أو النقصان . فقد يتراكم عليه الغبار ويقع عليه مثلاً نقطة زيت ، وبمرور الوقت يزيد المعيار ولو شيئاً ضيئلاً ، وهذا في صالح الموزون له ، وقد يحدث العكس فينقص الميزان نتيجة الملامسة للأشياء ، ولك أن تنظر مثلاً إلى أكرة الباب تراها لامعةً على خلاف ما حولها . إذن : أي ملامسة أو احتكاك للأشياء يُنقصها . حتى في الموازين الحديثة التي تضمن لك أقصى درجات الدقة فبشرية الإنسان لا يمكن أن تُعطى الدقة المتناهية ، وهذا معنى { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } [ الأحزاب : 39 ] { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] لأن معياره تعالى لا يختلف ، ولا ينسى شيئاً ، ولا يغفل عن شيء . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ … } .