Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 48-48)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يريد الحق - تبارك وتعالى - أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه مَا لاقاه من قومه ، فيذكر له نماذج من إخوانه أُولِي العزم من الرسل الذين اضطهدهم أقوامهم ، وآذوهم ليُسهِّل على رسول الله مهمته ، فلا يصده إيذاء قومه عن غايته نحو ربه . فبدأ بموسى - عليه السلام - لأنه من أكثر الرسل الذين تعبوا في دعوتهم ، فقد تعب موسى مع المؤمنين به فضلاً عن الكافرين به ، فقال سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ … } [ الأنبياء : 48 ] لأن رسالتهما واحدة ، وهم فيها شركاء : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً … } [ القصص : 34 ] وقال : { ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } [ طه : 31 - 32 ] . والفرقان : هو الفارق القوي بين شيئين لأن الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى ، كما تقول : غفر الله لفلان غفراناً ، وتقول : قرأت قراءة ، وقرأت قرآناً ، فليست القراءة واحدة ، ولا كل كتاب يُقرأ . والفرقان من أسماء القرآن : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] . فالفرقان - إذن - مصدر يدلُّ على المبالغة ، تقول : فرَّق تفريقاً وفرقاناً ، فزيادة الألف والنون تدل على زيادة في المعنى ، وأن الفَرْق في هذه المسألة فَرْق جليل وفَرْق واضح لأن كونك تُفرِّق بين شيئين الأمر بينهما هَيِّن تسمى هذا فَرْقاً ، أمّا أن تفرق بين شيئين يترتب على ذلك خطورة في تكوين المجتمع وخطورة في حركة الحياة ، فهذا فرقان لذلك سَمَّى القرآن فرقاناً لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل . ومن الفرقان ، قوله تعالى : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] وتقوى الله لا تكون إلا بتنفيذ أوامره وتعاليمه الواردة في القرآن الذي نزل على محمد ، والفرقان هنا يعني : نور تُفَرِّق به بين الأشياء وتُميِّز به بين المتشابهات . وعلى قَدْر ما تتقي الله باتباع الفرقان الأول يجعل لكم الفرقان الثاني ، وتتكوَّن لديكم فراسة المؤمن وبصيرته ، وتنزل عليكم الإشراقات التي تُسعِف المؤمن عندما يقع في مأزق . ألاَ تراهم يقولون : فلان ذكي ، فلان حاضر البديهة . أي : يستحضر الأشياء البعيدة وينتفع بها في الوقت الحاضر ، وهذا من توفيق الله له ، ونتيجة لبصيرته وفراسته ، وكانت العرب تضرب المثل في الفراسة والذكاء بإياس بن معاوية حتى قال الشاعر : @ إقْدامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِمِ في حِلْمِ أَحنَفَ في ذَكَاءِ إيَاسِ @@ ويُرْوَى أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور لما أراد أنْ يحج بيت الله في آخر مرة ، بلغه أن سفيان الثوري يتناوله وينتقده ويتهمه بالجور ، فقال : سوف أحج هذا العام ، وأريد أنْ أراه مصلوباً في مكة ، فبلغ الخبر أهل مكة ، وكان سفيان الثوري يقيم بها في جماعة من أصحابه من المتصوفة وأهل الإيمان ، منهم سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ، وكانا يُدلِّلان الثوري ويعتزان به . وفي يوم كان الثلاثة في المسجد والثوري مُسْتَلْقٍ بين صاحبيه يضع رأسه في حِجْر أحدهما ، ورِجلْيهْ في حِجْر الآخر ، وقد بلغهم خبر المنصور ومقالته ، فتوسل ابنُ عيينة والفضيل للشيخ الثوري : يا سفيان لا تفضحنا واختفِ حتى لا يراك ، فلو تمكَّن منك المنصور ونفذ فيك تهديده فسوف يَضعف اعتقاد الناس في المنسوبين إلى الله . وهنا يقول الثوري : والذي نفسي بيده لن يدخلها ، وفعلاً دخل المنصور مكة من ناحية الحجون ، فعثرت به الدابة ، وهو على مشارف مكة فوقع وأُصيب بكسر فمات لساعته . ودخل المنصور مكة محمولاً وأتَوْا به إلى المسجد الحرام حيث صلى عليه الثوري . هذا هو الفرقان والنور والبصيرة وفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله ، ولا يصدر في أمر من أموره إلا على هَدْيه . ويُروى أن المهدي الخليفة العباسي أيضاً دخل الكعبة ، فوجد صبياً صغيراً في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره يلتف حوله أربعمائة شيخ كبير من أصحاب اللحى والهَيْبة والوقار ، والصبي يُلْقِي عليهم درساً ، فتعجب المهدي وقال : أُفٍّ لهذه السعانين يعني الذقون ، أمَا كان فيهم مَنْ يتقدم ؟ ! ثم دنا من الصبي يريد أن يُقرِّعه ويؤنِّبه فقال له : كم سِنّك يا غلام ؟ فقال الصبي : سني سِنُّ أسامة بن زيد حينما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة جيش فيه أبو بكر وفيه عمر ، فقال له المهدي - معترفاً بذكائه وأحقيته لهذا الموقف : بارك الله فيك . فالفرقان - إذن - لا تُستعمل إلا للأمور الجليلة العظيمة ، سواء ما نزل على موسى ، أو ما نزل على محمد ، إلا أن الفرقان أصبح عَلَماً على القرآن ، فهناك فَرْق بين العلم والوصف ، فكل ما يُفرِّق بين حَقٍّ وباطل تصفه بأنه فرقانٌ ، أمّا إنْ سُمِّي به ينصرف إلى القرآن . والمتأمل في مادة فَرَق في القرآن يجد أن لها دوراً في قصة موسى عليه السلام ، فأول آية من آياته : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ … } [ البقرة : 50 ] . والفَرْق أنْ تفصل بين شيء مُتصل مع اختلاف هذا الشيء ، وفي علم الحساب يقولون : الخَلْط والمزج ، ففَرْق بين أن تفصل بين أشياء مخلوطة مثل برتقال وتفاح وعنب ، وبين أنْ تفصلها وهي مزيج من العصير ، تداخل حتى صار شيئاً واحداً . إذن : ففَرْق البحر لموسى - عليه السلام - ليس فَرْقاً بل فرقاناً ، لأن أعظم ألوان الفروق أن تَفرِق السائل إلى فِرْقيْن ، كل فِرق كالطود العظيم ، ومَنْ يقدر على هذه المسألة إلا الله ؟ ثم يقول تعالى : { وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] أي : نوراً يهدي الناس إلى مسالك حياتهم دون عَطَب ، وإلاَّ فكيف يسيرون في دروب الحياة ؟ فلو سار الإنسان على غير هدى فإمّا أنْ يصطدم بأقوى منه فيتحطم هو ، وإمّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه ، فالضياء - إذن - هام وضروري في مسيرة الإنسان ، وبه يهتدي لحركة الحياة الآمنة ويسعى على بينة ، فلا يَتْعب ، ولا يُتعِب الآخرين . { وَذِكْراً … } [ الأنبياء : 48 ] أي : يذكِّر ويُنبِّه الغافلين ، فلو تراكمتْ الغفلات تكوَّنَ الران الذي يحجب الرؤية ويُعمِي البصيرة ، لذلك لما شبه النبي صلى الله عليه وسلم غفلة الناس قال : " تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً " . وفي رواية " عوذاً عوذاً " أي يستعيذ بالله أن يحدث هذا لمؤمن ، فهل رأيتَ صانع الحصير حينما يضمُّ عُوداً إلى عُود حتى يُكوِّن الحصير ؟ كذلك تُعرَض علينا الفتن ، فإنْ جاء التذكير في البداية أزال ما عندك من الغفلة فلا تتراكم عليك الغفلات . " فأيُّما قلب أُشْرِبها - يعني قَبلَها - العود تلو العود - نُكتَتْ فيه نكتة سوداء ، وأيُّما قلب أنكرها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء ، حتى تكون على قلبين - صدق رسول الله - على أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة ، ما دامت السماوات والأرض . أو على أسود كالكوز مُجَخِّياً - يعني منكُوساً - لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً " . قالوا : فذلك هو الرَّانُ الذي يقول الله فيه : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] والذكر هو الذي يُجلِّي هذا الران . { وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] ومن صفاتهم أنهم : { ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ … } .