Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 80-80)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَعَلَّمْنَاهُ … } [ الأنبياء : 80 ] العِلْم نقل قضية مفيدة في الوجود من عالم بها إلى جاهل بها ، والإنسان دائماً في حاجة إلى معرفة وتعلُّم ، لأنه خليفة الله في الأرض ، ولن يؤدي هذه المهمة إلا بحركة واسعة بين الناس ، هذه الحركة تحتاج إلى فَهْم ومعرفة وتفاعل وتبادل معارف وثقافات ، فمثلاً تشكيل الحديد يحتاج إلى تسخين حتى يصير لَيِّناً قابلاً للتشكيل ، الماء لا بُدَّ أنْ نغليَه لكذا وكذا … إلخ . وقضايا العلم التي تحتاجها حركة الإنسان في الأرض نوعان : نوع لم يأمن الله فيه الخَلْق على أنفسهم ، فجاء من الله بالوحي ، حتى لا يكون للعقل مجال فيه ، ولا تختلف حوله الأهواء والرغبات ، وهذا هو المنهج الذي نزل يقول لك : افعل كذا ، ولا تفعل كذا . لكن الأمور التي لا تختلف فيها الأهواء ، بل تحاول أن تلتقي عليها وتتسابق إليها ، وربما يسرق بعضهم من بعض ، هذه الأمور تركها الحق - سبحانه - لعمل العقول وطموحاتها ، وقد يلهم فيها بالخاطر أو بالتعلم ، ولو من الأدنى كما تعلَّم ابن آدم قابيل من الغراب ، كيف يواري سوأة أخيه ، فقال سبحانه : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ … } [ المائدة : 31 ] . والقضية العلمية قد يكون لها مقدمات في الكون حين نُعمِل فيها العقل ، ونُرتِّب بعض الظواهر على بعض ، نتوصل منها إلى حقائق علمية ، وقد تأتي القضية العلمية بالتجربة ، أو بالخاطر يقذفه الله في قَلْب الإنسان . فقوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ … } [ الأنبياء : 80 ] يصح أن نقول : كان هذا التعليم بالوحي ، أو بالتجربة أو الإلقاء في الرَّوْع ، وهذه الصنعة لم تكن معروفة قبل داود عليه السلام . واللَّبوس : أبلغ وأحكم من اللباس ، فاللباس من نفس مادة لبس هي الملابس التي تستر عورة الإنسان ، وتقيه الحر والبرد ، كما جاء في قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ … } [ النحل : 81 ] . أما في الحرب فنحتاج إلى حماية أكبر ووقاية أكثر من العادية التي نجدها في اللباس ، في الحرب نحتاج إلى ما يقينا البأس ، ويحمينا من ضربات العدو في الأماكن القاتلة لذلك اهتدى الناس إلى صناعة الخوذة والدرع لوقاية الأماكن الخطرة في الجسم البشري ، وتتمثل هذه في الرأس والصدر ، ففي الرأس المخ ، وفي الصدر القلب ، فإن سَلِمَتْ هذه الأعضاء فما دونها يمكن مداوته وجَبْره . إذن : اللبوس أبلغ وأكثر حماية من اللباس لأن مهمته أبلغ من مهمة اللباس ، وهذه كانت صنعة داود - عليه السلام - كان يصنع الدروع ، وكانت قبل داود مَلْساء يتزحلق السيف عليها ، فلما صنعها داود جعلها مُركَّبة من حلقات حتى ينكسر عليها السيف لذلك قال تعالى بعدها : { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ … } [ الأنبياء : 80 ] أي : تحميكم في حَرْبكم مع عدوكم ، وتمنعكم وتحوطكم . إذن : ألهمنا داود عليه السلام ، فأخذ يُفكِّر ويبتكر ، وكل تفكير في ارتقاء صَنْعة إنما ينشأ من ملاحظة عيب في صَنْعة سابقة ، فيحاول اللاحق تلافي أخطاء السابق ، وهكذا حتى نصلَ إلى شيء لا عَيْبَ فيه ، أو على الأقل يتجنب عيوب سابقة لذلك يُسمُّونه آخر موديل . ثم يقول تعالى : { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } [ الأنبياء : 80 ] شاكرون على نعمة الله الذي يرعاكم ويحفظم في المآزق والمواقف الصعبة ، واختار سبحانه موقف البأس أمام العدو ليعطينا إشارة إلى ضرورة إعداد المؤمن لمواجهة الكافر ، والأخذ بأسباب النجاة إذا تمَّتْ المواجهة . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] . فليست مهمة الحديد في الحياة أنه ينفع الناس فحسْب ، إنما له مهمة قتالية أيضاً لذلك قال : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ … } [ الحديد : 25 ] كما قال : { نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ … } [ الإنسان : 23 ] فإنْ كان القرآن للهداية فالحديد يُؤيِّد هذه الهداية ، حيث نضرب به على أيدي الكافرين العاصين ، ونحمي به صدور المؤمنين المصدِّقين لذلك قال { وَأَنزَلْنَا … } [ الحديد : 25 ] أي : من أعلى مع أنه خارج من الأرض . إذن : مسألة الحديد في الأرض نعمة كبيرة من نِعَم الله علينا ، بها نحفظ أنفسنا من العدو ، فالحق - سبحانه وتعالى - خلق الخَلْق ولم يتركه هكذا يُدبِّر أمره ، إنما خلقه ووضع له قانون حمايته وصيانته ، وهذا يستحقّ مِنّا الشكر الدائم الذي لا ينقطع . ثم ينتقل السياق من الكلام عن داود إلى ابنه سليمان عليهما السلام ، فيقول الحق سبحانه : { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً … } .