Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 11-11)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ … } [ الحج : 11 ] العبادة : أنْ تطيع الله فيما أمر فتنفذه ، وتطيعه فيما نهى فتجتنبه ، بعض الناس يعبد الله هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور مستمر ، فإذا أصابه شَرٌّ أو وقع به مكروه ينقلب على وجهه { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ … } [ الحج : 11 ] . والحق سبحانه يريد من عبده أنْ يُقبل على عبادته في ثبات إيمان ، لا تزعزعه الأحداث ، ولا تهز إيمانه فيتراجع ، ربك يريدك عبداً له في الخير وفي الشر ، في السراء وفي الضراء ، فكلاهما فتنة واختبار ، وما آمنتَ بالله إلا لأنك علمتَ أنه إله حكيم عادل قادر ، ولا بد أنْ تأخذ ما يجري عليك من أحداث الحياة في ضوء هذه الصفات . فإنْ أثقلتْك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إنْ لم تكن لك فلأولادك من بعدك ، فلعلهم إنْ وجدوك في سعة وفي خير طَمِعُوا وفسدوا وطَغَوْا ، ولعل حياة الضيق وقِلَّة الرزق وتعبك لتوفر متطلبات الحياة يكون دافعاً لهم . واقرأ قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] وقوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] . لا بُدَّ أنْ تعرف هذه الحقائق ، وأنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه عليك ، سواء أكان نعيماً أو بُؤْساً ، فإنْ أصابك مرض أقعدك في بيتك فَقُلْ : ماذا حدث خارج البيت ، أبعدني الله عنه وعافاني منه ؟ فلعل الخير فيما تظنه شراً ، كما قال تعالى : { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ … } [ البقرة : 216 ] . وقد أجرى علماء الإحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا ، فوجدوا الإخوة في البيت الواحد ، وفي ظروف بيئية واحدة وأب واحد ، وأم واحدة ، حتى التعليم في المدرس على مستوى واحد ، ومع ذلك تجد أحد الأبناء مستقيماً ملتزماً ، وتجد الآخر على النقيض ، فلمَّا بحثوا في سبب هذه الظاهرة وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته وطفولته في وقت كان والده مريضاً ويلازم بيته لمدة ست سنوات ، فأخذ هذا الولد أكبر قِسْط من الرعاية والتربية ، ولم يجد الفرصة للخروج من البيت أو الاختلاط برفاق السوء . وفي نموذج آخر لأحد الأبناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في فترة تربيته وتنشئته كان تاجراً ، وكان كثير الأسفار ، ومع ذلك كان يُغْدِق على أسرته ، فتربَّى الولد في سَعَة من العيش ، بدون مراقبة الأب . وفي نموذج آخر وجدوا أخوين : أحدهما متفوق ، والآخر فاشل ، ولما بحثوا أسباب ذلك رغم أنهما يعيشان ظروفاً واحدة وجدوا أن الابن المتفوق صحته ضعيفة ، فمال إلى البيت والقراءة والاطلاع ، وكان الآخر صحيحاً وسيماً ، فمال إلى حياة الترف ، وقضى معظم وقته خارج البيت . والأمثلة في هذا المجال كثيرة . إذن : فالابتلاءات لها مغانم ، ومن ورائها حِكَم لأنها ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك ، وليست من سَعْيك ولا من عمل يدك ، وما دامت كذلك فارْضَ بها ، واعبد الله بإخلاص وإيمان ثابت في الخير وفي الشر . ومعنى : { يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ … } [ الحج : 11 ] والحرف : هو طرف الشيء ، كأن تدخل فتجد الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين ، وهذا عادةً لا يكون معه تمكُّن واطمئنان ، كذلك مَنْ يعبد الله على حرف يعني : لم يتمكَّن الإيمان من قلبه ، وسرعان ما يُخرِجه الابتلاء عن الإيمان ، لأنه عبد الله عبادةً غير متمكنة باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يُجريه على عبده . والآية لم تترك شيئاً من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر . وتأمل قول الله تعالى : { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ … } [ الحج : 11 ] وكذلك : { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ … } [ الحج : 11 ] فأنت لا تقول : أصبتُ الخيرَ ، إنما الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك ، فأنت لا تبحث عن رزقك بقدر ما يبحث هو عنك لذلك يقول تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ … } [ الطلاق : 2 - 3 ] . ويقول أهل المعرفة : رِزْقك أعلم بمكانك منك بمكانه ، يعني يعرف عنوانك أما أنت فلا تعرف عنوانه ، بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فلا تُرزَق منه بشيء ، وقد ترى الزرع في الحقول زاهياً تأمل فيه المحصول الوفير ، وتبني عليه الآمال ، فإذا بعاصفة أو آفة تأتي عليه ، فلا تُرزَق منه حتى بما يسدُّ الرَّمَق . ولنا عبرة ومثَلٌ في ابن أُذَيْنة حين ضاقت به الحال في المدينة ، فقالوا له : إن لك صحبة بهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فاذهب إليه ينالك من خير الخلافة ، وفعلاً سافر ابن أذينة إلى صديقه ، وضرب إليه أكباد الإبل حتى الشام ، واستأذن فأَذن له ، واستقبله صاحبه ، وسأله عن حاله فقال : في ضيق وفي شدة . وكان في مجلس الخليفة علماء فقال له : يا عروة ألست القائل - وكان ابن أُذَيْنَة شاعراً : @ لَقَد عَلِمت ومَا الإسْرَافُ مِنْ خُلُقِي أَنَّ الذي هُوَ رِزْقي سَوْفَ يأْتِينِي ؟ @@ وهنا أحسَّ عروة أن الخليفة كسر خاطره ، وخَيَّب أمله فيه ، فقال له : جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين ، لقد ذكَّرت مني ناسياً ، ونبَّهْتَ مني غافلاً ، ثم انصرف . فلما خرج ابن أُذيْنة من مجلس الخليفة ، وفكَّر الخليفة في الموقف وأنَّب نفسه على تصُّرفه مع صاحبه الذي قصد خَيْره ، وكيف أنه رَدَّه بهذه الصورة ، فأراد أنْ يُصلِح هذا الخطأ ، فأرسل إليه رسولاً يحمل الهدايا الكثيرة ، إلا أن رسول الخليفة كلما تبع ابن أُذَيْنة في مكان وجده قد غادره إلى مكان آخر ، إلى أنْ وصل إلى بيته ، فطرق الباب ، وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان منه ، وهذه عطاياه وهداياه . وهنا أكمل ابن أُذيْنة بيته الأول ، فقال : @ أسْعَى لَهُ فَيُعَنِّيني تطلُّبه وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لاَ يُعنِّيني @@ كذلك نلحظ في هذه الآية : { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ … } [ الحج : 11 ] ولم يقابل الخير بالشر ، إنما سماها فتْنَة أي : اختبار وابتلاء لأنه قد ينجح في هذا الاختبار فلا يكون شراً في حَقِّه . ومعنى : { ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ … } [ الحج : 11 ] يعني : عكس الأمر ، فبعد أنْ كان عابداً طائعاً انقلب إلى الضِّدِّ فصار عاصياً { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ … } [ الحج : 11 ] وخسْران الإنسان لعبادته خسران كبيرٌ لا يُجْبَر ولا يُعوِّضه شيء لذلك يقول بعدها : { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] فهل هناك خُسْران مبين ، وخسران غير مبين ؟ نعم : الخسران هو الخسارة التي تُعوَّض ، أما الخسارة التي لا عِوضَ لها فهذه هي الخسران المبين الذي يلازم الإنسان ولا ينفكُّ عنه ، وهو خُسْران لا يقتصر على الدنيا فقط فيمكن أنْ تُعوِّضه أو تصبر عليه ، إنما يمتد للآخرة حيث لا عِوضَ لخسارتها ولا صَبْر على شِدَّتها . فالخسران المبين أي : المحيط الذي يُطوِّق صاحبه . لذلك نقول لمن فقد عزيزاً عليه ، كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلاً : إنْ كان الفقيد حبيباً وغالياً فبيعوه غالياً وادخلوا به الجنة ، ذلك حين تصبرون على فَقْده وتحتسبونه عند الله ، وإنْ كنتم خسرتم به الدنيا فلا تخسروا به الآخرة ، فإنْ لطَمْنا الخدود وشَقَقْنَا الجيوب ، واعترضنا على قَدَر الله فيه فقد خسرنَا به الدنيا والآخرة . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير : إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإنْ أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وليس ذلك إلا للمؤمن " . والصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب الإيمان ، ومرحلة من مراحل اليقين في نفس المؤمن ، وهي بداية وعَتَبة يتلوها مراحل أخرى ومراقٍ ، حَسْب قوة الإيمان . اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزُّهَّاد ، وكيف كانوا يتباروْنَ في الوصول إلى هذه المراقي الإيمانية ، ويتنافسون فيها ، لا عن مُبَاهاة ومفاخرة ، إنما عن نية خالصة في الرُّقي الإيماني . يسأل أحد هؤلاء المتمكِّنين صاحبه : كيف حال الزهاد في بلادكم ؟ فقال : إن أصابنا خير شكرنا ، وإن أصابنا شَرٌّ صبرنا ، فضحك الشيخ وقال : وما في ذلك ؟ ! إنه حال الكلاب في بَلْخ . أما عندنا : فإنْ أصابنا خير آثرنا ، وإنْ أصابنا شَرٌّ شكرنا . وهذه ليست مباهاة إنما تنافس ، فكِلاَ الرجلين زاهد سالك لطريق الله ، يرى نفسه محسوباً على هذا الطَريق ، فيحاول أنْ يرتقيَ فيه إلى أعلى مراتبه ، فإياك أنْ تظن أن الغاية عند الصبر على البلاء والشُّكْر على العطاء ، فهذه البداية وبعدها منازل أعْلَى ومَراقٍ أسمى لمن طلبَ العُلاَ ، وشمَّر عن ساعد الجد في عبادة ربه . انظر إلى أحد هؤلاء الزُّهَّاد يقول لصاحبة : أَلاَ تشتاق إلى الله ؟ قال : لا ، قال مُتعجباً : وكيف ذلك ؟ قال : إنما يُشتاق لغائب ، ومتى غاب عني حتى أشتاق إليه ؟ وهكذا تكون درجات الإيمان وشفافية العلاقة بين العبد وربه عز وجل . ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد الله على حرف : { يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ … } .