Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 15-15)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يظنُّ تفيد عِلْماً غير يقيني وغير مُتأكد ، وسبق أنْ تكلَّمنا في نسبة القضايا ، فهناك حكم محكوم به ومحكوم عليه ، تقول : زيد مجتهد ، فأنت تعتقد في نِسْبة الاجتهاد لزيد ، فإنْ كان اعتقادك صحيحاً فتستطيع أنْ تُقدِّم الدَليل على صحته فتقول : بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق . أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يُقدِّم عليها دليلاً كأنْ سمع الناسَ يقولون : زيد مجتهد . فقال مثلهم ، لكن لا دليلَ عنده على صِدْق هذه المقولة ، كالطفل الذي نُلقّنه { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] هذه قضية واقعية يعتقدها الولد ، لكن لا يستطيع أنْ يُقدِّم الدليل عليها إلا عندما يكُبر ويستوي تفكيره . فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها ؟ أخذها من المأمون عليه : من أبيه أو من أستاذه ثم قلَّده . إذن : إنْ كانت القضية واقعة ، لكِنْ لا تستطيع أنْ تقيم الدليل عليها فهي تقليد ، فإنِ اعتقدتَ قضية واقعة ، وأقمْتَ الدليل عليها ، فهذا أسمْى مراتب العلم ، فإنِ اعتقدتَ قضيةً غير واقعيةٍ ، فهذا جهل . فالجاهل : مَنْ يعتقد شيئاً غير واقع ، وهذا الذي يُتعِب الدنيا كلها ، ويُشقي من حوله ، لأن الجاهل الأميَّ الذي لا يعلم شيئاً ، وليست لديه فكرة يعتقدها صفحة بيضاء ، تستطيع أنْ تقنعه بالحقيقة ويقبلها منك لأنه خالي الذهن ولا يعارضك . أما الجاهل صاحب الفكرة الخاطئة فيحتاج منك أولاً أنْ تُقنعه بخطأ فكرته حتى يتنازل عنها ، ثم تُلقِي إليه بالفكرة الصواب . فإنْ تشككْتَ في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب ، فهذا هو الشَّكُّ ، فلا تستطيع أنْ تجزم باجتهاد زيد ، ولا بعدم اجتهاده ، فإنْ غلب الاجتهاد فهو ظَنٌّ ، فإنْ غلب عدم الاجتهاد فهو وَهْم . إذن : نسبة القضايا إما علم تعتقده : وهو واقع وتستطيع أنْ تقيمَ الدليل عليه ، أو تقليد : وهو ما تعتقده وهو واقع ، لكن لا تقدر على إقامة الدليل عليه ، أو جهل : حين تعتقد شيئاً غير واقع ، أو شك : حين لا تجزم بالشيء ويستوي عندك النفي والإثبات ، أو ظن : حين تُرجِّح الإثبات ، أو وهم : حين تُرجِّح النفي . فالظن في قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ … } [ الحج : 15 ] أي : يمرُّ بخاطره مجرد مرور أن الله لن ينصر محمداً ، أو يتوهم ذلك - ولا يتوهم ذلك إلا الكفار - لأنهم يأملون ذلك في معركة الإيمان والكفر - مَنْ ظَنَّ هذا الظنَّ فعليه أنْ ينتهيَ عنه لأنه أمر بعيد ، لن يحدث ولن يكون . وقد ظَنَّ الكفار هذا الظن حين رَأَوْا بوادر نصر الإيمان وعلامات فوزه ، فاغتاظوا لذلك ، ولم يجدوا شيئاً يريح خاطرهم إلا هذا الظن . لذلك يردُّ الله غيظهم عليهم ، فيقول لهم : ستظلون بغيظكم لأن النصر للإيمان ولجنوده مستمر ، فليس أمامك إلا أنْ تجعل حبلاً في السماء وتربط عنقك به ، تشنق نفسك حتى تقع ، فإنْ كان هذا الكيد لنفسك يُنجيك من الغيظ فافعل : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] . لكن ما الغيظ ؟ الغيظ : نوع من الغضب مصحوب ومشُوب بحزن وأَسَىً وحَسْرة حينما ترى واقعاً يحدث أمام عينيك ولا يرضيك ، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تفعل شيئاً تمنع به مَا لا يُرضيك . وهذه المادة غيظ موجودة في مواضع أخرى من كتاب الله ، وقد استُعْملَتْ حتى للجمادات التي لا تُحِسُّ ، اقرأ قول الله تعالى عن النار : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ … } [ الملك : 8 ] وقال : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] فكأن النار مغتاظة من هؤلاء ، تتأهب لهم وتنتظرهم . والغَيْظ يقع للمؤمن والكافر ، فحين نرى عناد الكفار وسُخريتهم واستهزاءهم بالإيمان نغتاظ ، لكن يُذهب الله غيْظ قلوبنا ، كما قال سبحانه : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ … } [ التوبة : 15 ] . أما غيْظ الكفار من نصْر الإيمان فسوف يَبْقى في قلوبهم ، فربُّنا - سبحانه وتعالى - يقول لهم : ثقُوا تماماً أن الله لم يرسل رسولاً إلا وهو ضامن أنْ ينصره ، فإنْ خطر ببالكم خلافُ ذلك فلن يُريحكم ويَشْفي غيظكم إلاّ أنْ تشنقوا أنفسكم لذلك خاطبهم الحق سبحانه في آية أخرى فقال : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ … } [ آل عمران : 119 ] . ومعنى : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ … } [ الحج : 15 ] { فَلْيَمْدُدْ … } [ الحج : 15 ] : من مدَّ الشيء يعني : أطاله بعد أنْ كان مجتمعاً ، ومنه قوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا … } [ الحجر : 19 ] فكلما تسير تجد أرضاً ممتدة ليس لها نهاية ، وليس لها حافَّة . والسبب : الحبل ، يُخرِجون به الماء من البئر ، لكن هل يستطيع أحد أنْ يربط حبلاً في السماء ؟ إذن : علَّق المسألة على محال ، وكأنه يقول لهم : حتى إنْ أردتم شَنْق أنفسكم فلن تستطيعوا ، وسوف تظلُّون هكذا بغيظكم . أو : يكون المعنى : { إِلَى ٱلسَّمَآءِ … } [ الحج : 15 ] يعني : سماء البيت وسقفه ، كمَنْ يشنق نفسه في سَقْف البيت . ويمكن أن نفهم السبب على أنه أيّ شيء يُوصِّلك إلى السماء ، وأيّ وسيلة للصعود ، فيكون المعنى : خذوا أيّ طريقة تُوصِّلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب النصر لأن نَصْر محمد يأتي من السماء فامنعوه ، وهذه أيضاً لا يقدرون عليها ، وسيظل غيظهم في قلوبهم . وتلحظ أننا نتكلم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن الآية لم تذكر شيئاً عنه ، وكل ما جاء في الآية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ … } [ الحج : 15 ] والحديث مُوجَّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب الإيمان ، فقوله : { يَنصُرَهُ … } [ الحج : 15 ] ينصر مَنْ ؟ لا بُدَّ أنه محمد ، لماذا ؟ قالوا : لأن الأسماء حينما تُطلَق تدلُّ على مَعَانٍ ، فعندما تقول " سماء " نفهم المراد ، وعندما تقول " قلب " نفهم ، " نور " نعرف المراد . والأسماء إما اسم ظاهر مثل : محمد وعلي وعمر وأرض وسماء ، وإما ضمائر تدل على هذه الأسماء الظاهرة مثل : أنا ، أنت ، هو ، هم . والضمير مُبْهم لا يُعيِّنه إلا التكلُّم ، فأنت تقول : أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن ، فالذي يُعيِّن الضمير المتكلّم به حال الخطاب ، فعُمدْة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب . فإن لم يكُنْ متكلّماً ولا مخاطباً فهو غائب ، فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب ؟ حين تقول : هو ، هي ، هم . مَنِ المراد بهذه الضمائر ؟ كيف تُعيِّنها ؟ إنْ عيَّنْتَ المتكلم بكلامه ، والمخاطب بمخاطبته ، كيف تُعيِّن الغائب ؟ قالوا : لا بُدَّ أنْ يسبقه شيء يدل عليه ، كأن تقول : جاءني رجل فأكرمتُه ، أكرمت مَنْ ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثتُ عنه ، جاءتني امرأة فأكرمتُها ، جاء قوم فلان فأكرمتهم . إذن : فمرجع الضمير هو الذي يدلُّ عليه . لكن لم يسبق ذِكْر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الضمير ليُعيِّنه ويدلُّ عليه ، نعم لم يسبق ذِكْر لرسول الله ، لكن تأمَّل المعنى : الكلام هنا عن النصر بين فريق الإيمان وعلى رأسه محمد صلى الله عليه وسلم ، وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلاء المعاندون ، فالمقام مُتعيّن أنه لا يعود الضمير إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومثال ذلك قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ … } [ القدر : 1 ] . فالضمير هنا مُتعيِّن ، ولا ينصرف إلا إلى القرآن ، ولا يتعين الضمير إلا إذا كان الخاطر لا ينصرف إلى غيره في مقامه . اقرأ : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] تلحظ أن الضمير سابق على الاسم الظاهر ، فالمرجع متأخر ، ومع ذلك لا ينصرف الضمير إلا إلى الله ، فإذا قِيلَ : هو هكذا على انفراد لا يمكن أن ينصرف إلا لله عز وجل . كذلك في قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ … } [ النحل : 61 ] . على ظَهْر أيِّ شيء ؟ الذِّهْن لا ينصرف في هذا المقام إلا إلى الأرض . وقوله تعالى : { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] الاستفهام هنا مِمَّنْ يعلم ، فهو استفهام للتقرير ، ليِقُروا هم بأنفسهم أن غَيْظهم سيظلُّ كما هو ، لا يشفيه شيء ، وأنهم سيموتون بغيظهم ، كما قال تعالى : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ … } [ آل عمران : 119 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ … } .