Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 28-28)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كلمة { مَنَافِعَ … } كلمة عامة واسعة تشمل كل أنواع النفع : مادية دنيوية ، أو دينية أُخروية ، ولا ينبغي أنْ نُضيِّق ما وسَّعه الله ، فكُلُّ ما يتصل بالحج من حركات الحياة يُعَد من المنافع ، فاستعدادك للحج ، وتدبير نفقاته وأدواته وراحلته فيها منافع لك ولغيرك حين توفر لأهلك ما يكفيهم حتى تعود . ما يتم من حركة بيع وشراء في مناطق الحج ، كلها منافع متبادلة بين الناس ، التاجر الذي يبيع لك ، وصاحب البيت الذي يُؤجِّره لك ، وصاحب السيارة التي تنقلك . إذن : المنافع المادية في الحج كثيرة ومتشابكة ، متداخلة مع المنافع الدينية الأخروية ، فحين تشتري الهَدْي مثلاً تؤدي نُسُكاً وتنفع التاجر الذي باع لك ، والمربِّي الذي ربَّى هذا الهَدْي ، والجزار الذي ذبحه ، والفقير الذي أكل منه . إذن : لا يتم الحج إلا بحركة حياة واسعة ، فيها نَفْع لك وللناس من حيث لا تدري ، ولك أنْ تنظرَ في الهدايا التي يجلبها الحجاج معهم لأهليهم وذويهم ، خاصة المصريين منهم ، فترى بعضهم ينشغل بجَمْع هذه الأشياء قبل أنْ يُؤدِّي نُسُكه ويقضي معظم وقته في الأسواق ، وكأنه لن يكون حاجاً إلا إذا عاد مُحمّلاً بهذه الهدايا . لذلك كان يأتي إلينا بعض هؤلاء يسألون : أنا عليَّ دَم مُتْعة وليس معي نقود ، فماذا أفعل ؟ يريد أن يصوم . صحيح : كيف سيُؤدي ما عليه وقد أنفق كُلَّ ما معه ؟ فكنت أقول له : اعْطِني حقيبة سفرك ، وسأبيع ما بها ، ولن أُبقي لك إلا ما يكفيك من نفقات حتى تعود . أليست هذه كلها من المنافع ؟ ومن منافع الحج ان الحاجَّ منذ أنْ ينوي أداء هذه الفريضة ويُعِد نفسه لها إعداداً مادياً ، وإعداداً نفسياً معنوياً ، فيحاول أنْ يُعيد حساباته من جديد ، ويُصلح من نفسه ما كان فاسداً ، وينتهي عَمَّا كان يقع فيه من معصية الله ، ويُصلِح ما بينه وبين الناس ، إذن : يجري عملية صَقْل خاصة تُحوِّله إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم ، ويكون أهْلاً لرؤية بيت الله والطواف به . ومن الإعداد للحج أنْ يتعلّم الحاجُّ ما له وما عليه ، ويتأدب بآداب الحج فيعرف محظوراته وما يحرُم عليه ، وأنه سوف يتنازل عن هِنْدامه وملابسه التي يزهو بها ، ومكانته التي يفتخر بها بين الناس ، وكيف أن الإحرام يُسوِّي بين الجميع . يتعلم كيف يتأدَّب مع نفسه ، ومع كل أجناس الكون من حوله ، مع نفسه فلا يُفكّر في معصية ، ولا تمتدّ يده حتى على شعرة من شعره ، أو ظُفْر من أظافره ولا يقْربُ طيباً ، ولا حتى صابونة لها رائحة . والعجيب أن الحاج ساعة يدخل في الإحرام يحرص كل الحرص على هذه الأحكام ، وأتحدى أيَّ إنسان ينوي الحج ويأخذ في الإحرام به ، ثم يفكر في معصية لأنه يُعِدُّ نفسه لمرحلة جديدة يتطهر فيها من الذنوب ، فكيف يكتسب المزيد منها وقد أتى من بلاد بعيدة ليتطهر منها ؟ وفي الحجِّ يتأدب الحاج مع الحيوان ، فلا يصيده ولا يقتله ، ومع النبات فلا يقطع شجراً . يتأدب حتى مع الجماد الذي يعتبره أَدْنى أجناس الكون ، فيحرص على تقبيل الحجر الأسود ، ويجتهد في الوصول إليه ، فإنْ لم يستطع أشار إليه بيده . إن الحج التزام وانضباط يفوق أيَّ انضباط يعرفه أهل الدنيا في حركة حياتهم ، ففي الحج ترى هذا الإنسان السيد الأعلى لكل المخلوقات كَمْ هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته ، وكم هي طمأنينة النفس البشرية حين تُقبِّل حجراً وهي راضية خاضعة ، بل ويحزن الإنسان إذ لم يتمكن من تقبيل الحجر . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ … } [ الحج : 28 ] يذكروا اسم الله لأن كل أعمال الحج مصحوبة بذكر الله وتلبيته ، فَمَا من عمل يُؤدِّيه الحاجّ إلا ويقول : لبيك اللهم لبيك . وتظل التلبية شاغله ودَيْدنه إلى أنْ يرمي جمرة العقبة ، ومعنى " لبيك اللهم لبيك " أن مشاغل الدنيا تطلبني ، وأنت طلبتني لأداء فَرْضِك عليَّ ، فأنا أُلبِّيك أنت أولاً لأنك خالقي وخالق كل ما يشغلني ويأخذني منك . والأيام المعلومات هي : أيام التشريق . ومعنى : { عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ … } [ الحج : 28 ] أي : يشكرون الله على هذا الرزق الوقتي الذي يأكلون منه ويشربون ، ويبيعون ويشترون في أوقات الحج . أو يشكرون الله على أنْ خلقَ لهم هذه الأنعام ، وإنْ لم يحجُّوا ، ففي خَلْق الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم والماعز - وتسخيرها للإنسان حكمة بالغة ، ففضلاً عن الانتفاع بلحمها وألبانها وأصوافها وأوبارها اذكروا الله واشكروه أنْ سخَّرها لكم ، فلولا تسخير الله لها لَمَا استطعتُم أنْ تنتفعوا بها ، فالجمل مثلاً هذا الحيوان الضخم يقوده الطفل الصغير ، وينُيخه ويحمله في حين لم يستطع الإنسان تسخير الثعبان مثلاً أو الذئب . لذلك يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ … } [ يس : 71 - 72 ] . لذلك نذكر الله ونشكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام استمتاعاً بها أَكْلاً ، أو استمتاعاً بها بَيْعاً أو زينة ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [ النحل : 6 ] . ولولا أن الله تعالى ذَلَّلها لِخدمتك ما استطعْتَ أنت تذليلها والانتفاع بها لذلك من حكمة الله أنْ يترك بعض خَلْقه غير مُسْتأنس ، ولا يمكن لك بحال أن تستأنسه أو تُذلّله لتظل على ذِكْر لهذه النعمة وتشكر الله عليها . وسبق أن ضربنا مثلاً بالبرغوث ، وهو من أَدْنى هذه المخلوقات ، ولا تكاد تراه ، ومع ذلك لا تقدر عليه ، وربما أقضَّ مَضْجعك ، وأقلق نومك طوال الليل . وتلمس هذه النعمة في الجمل الذي يقوده الصبي الصغير ، إذا حرن منك فلا تستطيع أن تجعله يسير رغماً عنه ، أو صَالَ فلا يقدر عليه أحد ، وقد يقتل صاحبه ويبطش بمَنْ حوله . إذن : لا قدرة لك عليه بذاتك ، إنما بتذليل الله يمكن الانتفاع به ، فتسوقه إلى نَحْره ، فيقف ساكناً مُسْتسلماً لك . والمتأمل في حال الحيوانات التي أحلها الله لنا يجد أمرها عجيباً ، فالحيوان الذي أحلَّه الله لك تظل تنتفع به طوال عمره ، فإذا ما تعرّض لما يُزهِق روحه ، ماذا يفعل ؟ يرفع رأسه إلى أعلى ، ويعطيك مكان ذَبْحه ، وكأنه يقول لك : أنا في اللحظات الأخيرة فاجتهد في أنْ تنتفع بلحمي ، وأهل الريف إذا شاهدوا مثل هذه الحالة يقولون : طلب الحلال يعني الذبح . أما الحيوان الذي لا يُذبح ولا يُحله الله فيموت مُنكَّس الرأس لأنه لا فائدة منه . هذا الحيوان الذي نتهمه بالغباء ونقول أنه بهيم … الخ لو فكرتَ فيه لَتغيَّر رأيُك ، فالحمار الذي نتخذه رَمْزاً للغباء وعدم الفَهْم تسوقه أمامك وتُحمِّله القاذورات وتضربه فلا يعترض عليك ولا يخالفك ، فإنْ نظفْته وزيَّنْتَه بلجام فضة ، وبردعة قطيفة تتخذه رُكُوبة وزينة ويسير بك ويحملُك ، وأنت على ظهره ، فإنْ غضبتَ عليه واستخدمْته في الأحمال وفي القاذورات تحمَّل راضياً مطيعاً … وانظر إلى هذا الحمار الذي نتخذه مثالاً للغباء ، إذا أردتَ منه أن يقفز قناة أوسع من مقدرته وإمكانياته ، فإنه يتراجع ، ومهما ضربتَه وقسوْتَ عليه لا يُقدِم عليها أبداً لأنه يعلم مدى قفزته ، ويعلم مقدرته ، ولا يُقدِم على شيء فوق ما يطيق - وبعد ذلك نقول عنه : حمار ! ! ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } [ الحج : 28 ] . البائس : هو الذي يبدو على سِحْنته وشكله وزِيِّه أنه فقير محتاج ، أما الفقير فهو محتاج الباطن ، وإنْ كانَ ظاهره اليُسْر والغِنَى ، وهؤلاء الفقراء لا يلتفت الناس إليهم ، وربما لا يعلمون حالهم وحاجتهم ، وقد قال الله فيهم : { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً … } [ البقرة : 273 ] . والمعنى : كُلُوا مما يُبَاح لكم الأكل منه ، وهي الصدقة المحضة ، أو الهدية للبيت غير المشروطة بشيء ، يعني : لا هي دم قِرَان أو تمتُّع ، ولا هي فدية لمخالفة أمر من أمور الإحرام ، أو كانت نذراً فهذه كلها لا يؤكَل منها . إذن : كلوا من الصدقة والتطوع ، وأطعموا كذلك البائس والفقير ، ومن رحمة الله بالفقراء أنْ جعل الأغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذبائح ويشترونها ويذهبون لمكان الذبح ويتحمَّلون مشقة هذا كله ، ثم يبحثون عن الفقير ليعطوه وهو جالس في مكانه مستريحاً ، يأتيه رِزْقه من فَضْل الله سهلاً مُيسّراً . لذلك يقولون : من شرف الفقير أنْ جعله الله ركناً من أركان إسلام الغنيّ ، أي : في فريضة الزكاة ، ولم يجعل الغني ركناً من أركان إسلام الفقير . ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ … } .