Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ لْيَقْضُواْ … } [ الحج : 29 ] كلمة قضاء تُقال ، إما لقضاء الله الذي يقضيه على الإنسان مثلاً ، وهو أمر لازم محكوم به ، وإما قضاء من إنسان بين متخاصمين ، وأول شيء في مهمة القضاء أن يقطع الخصومة ، كأن المعنى { لْيَقْضُواْ … } [ الحج : 29 ] أي : يقطعوا . ومعنى { تَفَثَهُمْ … } [ الحج : 29 ] لما نزل القرآن بهذه الكلمة لم تكن مستعملة في لسان قريش ، ولم تكن دائرة على ألسنتهم ، فسألوا عنها أهل البادية ، فقالوا : التفَثُ يعني : الأدران والأوساخ التي تعلَقُ بالجسم ، فقالوا : والله لم نعرفها إلا ساعةَ نزل القرآن بها . فالمراد - إذن - ليقطعوا تفثهم أي الأدران التي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الإحرام ، حيث يمكث الحاجُّ أيام الحج مُحْرِماً لا يتطيب ، ولا يأخذ شيئاً من شعره أو أظافره ، فإذا ما أنهى أعمال الحج وذبح هَدْية يجوز له أنْ يقطع هذا التفث ، ويزيل هذه الأدران بالتحلُّل من الإحرام ، وفِعْل ما كان محظوراً عليه . وقوله تعالى : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ … } [ الحج : 29 ] إن كان قد نذر لله شيئاً فعليه الوفاء به . { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 29 ] يعني : طواف الإفاضة ، والطواف : أنْ تدور حول شيء بحيث تبدأ وتنتهي ، وتبدأ وتنتهي ، وهكذا ، وقد وصف البيت بأنه عتيق ، وكلمة عتيق استعملت في اللغة استعمالات واسعة ، منها : القديم ، وما دام هو أول بيت وُضِع للناس فهو إذن قديم ، والقِدَم هنا صفة مدح لأنها تعني الشيء الثمين الذي يُحافظ عليه ويُهتَم به . كما نرى عند بعض الناس أشياء ثمينة ونادرة يحتفظون بها ويتوارثونها يسمونها " العاديات " مثل : التحف وغيرها ، وكلما مَرَّ عليها الزمن زادتْ قيمتها ، وغلا ثمنها . والعتيق : الشيء الجميل الحسن ، والعتيق : المعتوق من السيطرة والعبودية لغيره ، فما المراد بوصف البيت هنا بأنه عتيق ؟ وَصْف البيت بالقِدَم يشمل كُلَّ هذه المعاني : فهو قديم لأنه أول بيت وُضِع للناس ، وهو غالٍ ونفيس ونادر حيث نرى فيه مَا لا نراه في غيره من آيات ، ويكفي أن رؤيته والطواف به تغفر الذنوب ، وهو بيت الله الذي لا مثيلَ له . وهو كذلك عتيق بمعنى معتوق من سيطرة الغير لأن الله حفظه من اعتداء الجبابرة ، ألاَ ترى قصة الفيل ، وما فعله الله بأبرهة حين أراد هَدْمه ؟ حتى الفيل الذي كان يتقدَّم هذا الجيش أدرك أن هذا اعتداءٌ على بيت الله ، فتراجع عن البيت ، وأخذ يتوجَّه أي وجهة أرادوا إلا ناحية الكعبة . ويُقال : إن رجلاً تقدّم إلى الفيل . وقال في أذنه : ابْرُك محمود - اسم الفيل - وارجع راشداً فإنك ببلد الله الحرام . وقد عبَّر الشاعر عن هذا الموقف ، فقال : @ حُبِسَ الفيل بالمُغَمَّسِ حَتَّى ظَلَّ يعوي كأنه مَعْقُور @@ ثم ينزل الله عليهم الطير الأبابيل التي ترميهم بالحجارة حتى الموت . لذلك لما ذهب عبد المطلب جَدُّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليُكلِّم أبرهة في الإبل المائة التي أخذها من إبله ، قال أبرهة : لقد كنتُ أهابك حين رأيتُك ، لكنك سقطت من نظري لما كلَّمتني في مائة بعير أصبْتها لك ، وتركتَ البيت الذي فيه مجدُكم وعزكم . فماذا قال عبد المطلب ؟ قال : أما الإبل فإنها لي ، أما البيت فله رَبٌّ يحميه . البعض يتهم عبد المطلب لمقالته هذه بالسلبية ، وليست هذه سلبية من كبير قريش ، إنما ثقةً منه في حماية الله لبيته لذلك رَدَّه إلى أقوى منه ، وكأنه قال : إنْ كنتُ أحميه أنا ، فسأحميه بقوتي وقدرتي وحيلتي ، لكنني أريد أنْ أرعبه بقدرة الله وقوته ، وما سلَّمتُ البيت إلاَّ وأنا واثق أن ربَّ البيت سيحميه ، وهذه تُزلزل العدو وتُربكه . وما أشبه موقف عبد المطلب بموقف موسى عليه السلام ، لما قال له قومه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فقال في يقين وثقة : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . إذن : لم يكُنْ عبد المطلب سلبياً كما يتهمه البعض ، بل كان إيجابياً من النوع الراقي ، فلو كان إيجابياً بالمعنى الذي تريدون لأعطتْه هذه الإيجابية منعةً بقوته هو ، إنما تصرُّفه وما تعتبرونه سلبية أعطاه منعةً بقدرة الله وقُوَّته سبحانه لذلك تدخَّلتْ فوراً جنود السماء . لكن لماذا الطواف والدوران حول الكعبة ؟ قالوا : لأن المسلم وهو غائب عن الكعبة يُصلِّي لجهتها ، كلّ حسب موقعه منها ، فتجد المسلمين في كل أنحاء العالم يتجهون نحوها ، كل من ناحية ، هذا من الشمال ، وهذا من الجنوب ، وهذا من الشرق ، وهذا من الغرب ، يعني بكل الجهات الأصلية والفرعية . فإذا ما ذهبتَ إلى الكعبة ذاتها ، وتشرفتَ برؤيتها ، فهل تستقبلها من نفس المكان الذي كنتَ تتجه إليه في صلاتك وغيرك وغيرك ؟ إذن : فكل اتجاهات الكعبة سواء لك ولغيرك ، كما قال تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 115 ] فليس هناك مكان أَوْلَى من مكان لذلك نطوف حول البيت . ثم يقول الحق سبحانه : { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ … } .