Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 30-30)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ذٰلِكَ … } إشارة إلى الكلام السابق بأنه أمْر واضح ، لكن استمع إلى أمر جديد سيأتي ، فهنا استئناف كلام على كلام سابق ، فبعد الكلام عن البيت وما يتعلَّق به من مناسك الحج يستأنف السياق : { وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ … } [ الحج : 30 ] فالحق - سبحانه - يريد لعبده أنْ يلتزمَ أوامره بفعل الأمر واجتناب النهي ، فكُلُّ أمر لله يَحرُم عليك أن تتركه ، وكلّ نَهْي يحرم عليك أنْ تأتيه ، فهذه هي حرمات الله التي ينبغي عليك تعظيمها بطاعة الأمر واجتناب النهي . وحين تُعظِّم هذه الحرمات لا تُعظمها لذاتها ، فليس هناك شيء له حُرْمة في ذاته ، إنما تُعظِّمها لأنها حرمات الله وأوامره لذلك قد يجعل الالتزام بها مُتغيّراً ، وقد يطرأ عليك ما يبدو متناقضاً في الظاهر . فالوضوء مثلاً ، البعض يرى فيه نظافة للبدن ، فإذا انقطع الماء وعُدِم وجوده حَلَّ محلّه التيمُم بالتراب الطاهر الذي نُغبِّر به أعضاء التيمم ، إذن : ليس في الأمر نظافة ، إنما هو الالتزام والانقياد واستحضار أنك مُقْبل على أمر غير عادي يجب عليك أنْ تتطَّهر له بالوضوء ، فإنْ أمرتُكَ بالتيمم فعليك الالتزام دون البحث في أسباب الأمر وعِلّته . وهكذا يكون الأدب مع الأوامر وتعظيمها لأنها من الله ، ولِمَ لا ونحن نرى مثل هذا الالتزام أو رياضة التأديب في الالتزام في تعاملاتنا الطبيعية الحياتية ، فمثلاً الجندي حين يُجنَّد يتعلم أول ما يتعلم الانضباط قبل أنْ يُمسِك سلاحاً أوْ يتدرب عليه ، يتعلم أن كلمة " ثابت " معناها عدم الحركة مهما كانت الظروف فلو لَدغه عقرب لا يتحرك . ويدخل المدرب على الجنود في صالة الطعام فيقول : ثابت فينفذ الجميع … الملعقة التي في الطبق تظل في الطبق ، والملعقة التي في فم الجندي تظل في فمه ، فلا ترى في الصالة الواسعة حركة واحدة . وهذا الانضباط الحركي السلوكي مقدمة للانضباط في الأمور العسكرية الهامة والخطيرة بعد ذلك . إذن : فربُّك - عز وجل - أَوْلَى بهذا الانضباط لأن العبادة ما هي إلا انضباط عابد لأوامر معبود وطاعة مطلقة لا تقبل المناقشة لأنك لا تؤديها لذاتها وإنما انقياداً لأمر الله ، ففي الطواف تُقبِّل الحجر الأسود ، وفي رمي الجمار ترمي حجراً ، وهذا حجر وذاك حجر ، هذا ندوسه وهذا نُقبِّله فَحَجر يُقَبَّل وحَجر يُقَنْبل لأن المسألة مسألة طاعة والتزام ، هذا كله من تعظيم حرمات الله . لذلك الإمام علي - رضي الله عنه - يلفتنا إلى هذه المسألة فيقول في التيمم : لو أن الأمر كما نرى لكان مسح باطن القدم أَوْلَى من ظاهرها لأن الأوساخ تعلق بباطن القدم أولاً . وقد ذكرنا في الآيات السابقة أن الحرمات خمس : البيت الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والمشعر الحرام ، والشهر الحرام ، وحرمات الله هي الأشياء المحرمة التي يجب ألاَّ تفعلها . ثم يُبيِّن الحق سبحانه جزاء هذا الالتزام : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ … } [ الحج : 30 ] الخيرية هنا ليست في ظاهر الأمر وعند الناس أو في ذاته ، إنما الخيرية للعبد عند الله . ثم يقول سبحانه : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ … } [ الحج : 30 ] قد تقول : كيف وهي حلال من البداية وفي الأصل ، قالوا : لأنه لما حرَّم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائماً فلا ينتفعون بها ، فبيَّن سبحانه أنها حلال إلا ما ذُكر تحريمه ، ونصَّ القرآن عليه في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ … } [ المائدة : 3 ] . وقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ … } [ الأنعام : 121 ] . ومعنى : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ … } [ الحج : 30 ] الرجْس : النجاسة الغليظة المتغلغلة في ذات الشيء . يعني : ليست سطحية فيه يمكن إزالتها ، وإنما هي في نفس الشيء لا يمكن أنْ تفصلها عنه . { وَٱجْتَنِبُواْ … } [ الحج : 30 ] لا تدل على الامتناع فقط ، إنما على مجرد الاقتراب من دواعي هذه المعصية لأنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها لا بُدَّ أن تداعبك وتشغل خاطرك ، ومَنْ حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه ، لذلك لم يقُل الحق - سبحانه وتعالى - امتنعوا إنما قال : اجتنبوا ، ونعجب من بعض الذين أسرفوا على أنفسهم ويقولون : إن الأمر في اجتنبوا لا يعني تحريم الخمر ، فلم يَقُلْ : حُرِّمَتْ عليكم الخمر . نقول : اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُرِّمَتْ عليكم ، لو قال الحق - تبارك وتعالى - حُرّمت عليكم الخمر ، فهذا يعني أنك لا تشربها ، ولكن لك أن تشهد مجلسها وتعصرها وتحملها وتبيعها ، أما اجتنبوا فتعني : احذروا مجرد الاقتراب منها على أيِّ وجه من هذه الوجوه . لذلك ، تجد الأداء القرآني للمطلوبات المنهجية في الأوامر والنواهي من الله يُفرِّق بين حدود ما أحلَّ الله وحدود ما حرَّم ، ففي الأوامر يقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] . وفي النواهي يقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] . ففي الأوامر وما أحلَّ الله لك قِفْ عند ما أحلَّ ، ولا تتعداه إلى غيره ، أمَّا المحرمات فلا تقترب منها مجردَ اقتراب ، فلما أراد الله نَهْي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة قال لهما : { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ … } [ البقرة : 35 ] . وبعد أن أمر الحق سبحانه باجتناب الرجْس في عبادة الأصنام قال : { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } [ الحج : 30 ] فقرن عبادة الأوثان بقول الزُّور ، كأنهما في الإثم سواء لذلك النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم يوماً من صلاة الصبح ، ثم وقف وقال : " ألا وإن شهادة زور جعلها الله بعد الأوثان " . لماذا ؟ لأن في شهادة الزور جماع لكل حيثيات الظلم ، فساعةَ يقول : ليس للكون إله ، فهذه شهادة زور ، وقائلها شاهد زور ، ساعة يقول : الإله له شريك فهذه شهادة زور ، وقائلها شاهد زور ، كذلك حين يظلم أو يُغير في الحقيقة ، أو يذمُّ الآخرين ، كلها داخلة تحت شهادة الزور . ولما عدَّد النبي صلى الله عليه وسلم الكبائر ، قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله . قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - فقال : ألا وقول الزور ألا وقول الزور ، قال الراوي : فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت أو حتى ظننا أنه لا يسكت " . ويقولون في شاهد الزور : يا شاهد الزور أنت شر منظور ، ضلَّلتَ القُضاة ، وحلفت كاذباً بالله . ومن العجيب في شاهد الزور أنه أول ما يسقط من نظر الناس يسقط من نظر مَنْ شهد لصالحه ، فرغم أنه شَهِد لصالحك ، ورفع رأسك على خَصْمك لكن داستْ قدمك على كرامته وحقَّرته ، ولو تعرَّض للشهادة في قضية أخرى فأنت أول مَنْ تفضحه بأنه شهد زوراً لصالحك . ثم يقول الحق سبحانه : { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ … } .