Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 2-2)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والرؤية : قلنا قد تكون رؤية علمية أو رؤية بصرية ، والشيء الذي نعلمه إما : علمَ اليقين ، وإما عين اليقين ، وإما حقيقة اليقين . علم اليقين : أنْ يخبر مَنْ تثق به بشيء ، كما تواترت الأخبارعن الرحالة بوجود قارة أسموها فيما بعد أمريكا ، وبها كذا وكذا ، فهذا نسميه " علم يقين " ، فإذا ركبت الطائرة إلى أمريكا فرأيتها وشاهدت ما بها فهذا " عين اليقين " فإذا نزلتَ بها وتجولتَ بين شوارعها ومبانيها فهذا نسميه " حقيقة اليقين " . لذلك حين يخبر الله تعالى الكافرين بأن هناك عذاباً في النار فهذا الإخبار صادق من الله فعِلْمنا به " علم يقين " ، فإذا رأيناها فهذا " عين اليقين " كما قال سبحانه : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 7 ] فإذا ما باشرها أهلها ، وذاقوا حرّها ولظاها - وهذا مقصور على أهل النار - فقد علموها حَقَّ اليقين ، لذلك يقول تعالى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الواقعة : 90 - 96 ] . ومعنى : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ … } [ الحج : 2 ] الذهول : هو انصراف جارحة عن مهمتها الحقيقية لهوْلٍ رأتْه فتنشغل بما رأته عن تأديةِ وظيفتها ، كما يذهل الخادم حين يرى شخصاً مهيباً أو عظيماً ، فيسقط ما بيده مثلاً ، فالذهول - إذن - سلوك لا إرادي قد يكون ذهولاً عن شيء تفرضه العاطفة ، أو عن شيء تفرضه الغريزة . العاطفة كالأم التي تذهَلُ عن ولدها ، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد ، ففي مرحلة الحمل مثلاً تجد الأم تحتاط في مشيتها ، وفي حركاتها ، خوفاً على الجنين في بطنها ، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد ، وإلاَّ تعرض لما يؤذيه أو يُودِي بحياته . لذلك ، لما سألوا المرأة العربية عن أحب أبنائها ، قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يعود ، والمريض حتى يُشْفَى ، فحسب الحاجة يعطي الله العاطفة ، فالحامل عاطفتها نحو ولدها قوية ، وهي كذلك في مرحلة الرضاعة . فانظر إلى المرضعة ، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه ، وأيُّ هول هذا الذي يشغلها ، ويُعطِّل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويُعطِّل حتى الغريزة . وقد أعطانا القرآن صورة أخرى في قوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } [ عبس : 34 - 36 ] . ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يذكر هنا الأخ قبل الأب والأم ، قالوا : لأن الوالدين قد يُوجدان في وقت لا يرى أنهما في حاجة إليه ، ولا هو في حاجة إليهما لأنه كبر ، أمَّا الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة . وقوله تعالى : { كُلُّ مُرْضِعَةٍ … } [ الحج : 2 ] . والمرضعة تأتي بفتح الضاد وكَسْرها : مُرضَعة بالفتح هي التي من شأنها أن ترضع وصالحة لهذه العملية ، أما مُرضِعة بالكسر فهي التي تُرضع فعلاً ، وتضع الآن ثديها في فَم ولدها ، فهي مرضِعة فانظر - إذن - إلى مدى الذهول والانشغال في مثل هذه الحالة . وقوله تعالى : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا … } [ الحج : 2 ] بعد أنْ تكلَّم عن المرضع رقَّى المسألة إلى الحامل ، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني ، فالرحم بمجرد أنْ تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها ، كما قال سبحانه وتعالى : { وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى … } [ الحج : 5 ] . فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله ، فهذه - إذن - مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها . إذن : وَضْع هذا الحمل دليل هَوْل كبير وأمر عظيم يحدث . والحَمْل نوعان : ثقَل تحمله وهو غيرك ، وثقل تحمله في ذاتك ، ومنه قوله تعالى : { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حِمْلاً } [ طه : 101 ] والحِمْل بكسر الحاء : هو الشيء الثقيل الذي لا يُطيقه ظهرك ، أمّا الحَمْل بالفتح فهو : الشيء اليسير تحمله في نفسك . وفي هذا المعنى يقول الشاعر : @ لَيْسَ بِحِمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهْرُ مَا الحِمْلُ إلاَّ مَا وَعَاهُ الصَّدْر @@ أي : أن الشيء الذي تطيق حَمْله ويَقْوى عليه ظهرك ليس بحمل ، إنما الحمل هو الهمّ الذي يحتويه الصدر . ثم يقول سبحانه : { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] سكارى : أي يتمايلون مضطربين ، مثل السكارى حين تلعب بهم الخمر ، وتطوحهم يميناً وشمالاً ، وتُلقِي بهم على الأرض ، وكلما زاد سُكْرهم وخروجهم عن طبيعتهم كان النوع شديداً ! ! وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سُكْرِ ولكن من خوف وهَوْل وفزع { وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] . لكن ، من أين يأتي اضطراب الحركة هذا ؟ قالوا : لأن الله تعالى خلق الجوارح ، وخلق في كل جارحة غريزة الانضباط والتوازن ، وعلماء التشريح يُحدِّدون في الجسم أعضاء ومناطق معينة مسئولة عن حِفْظ التوازن للجسم ، فإذا ما تأثرتْ هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان بالدُّوار ، ويفقد توازنه ، كأنْ تنظر من مكان مرتفع ، أو تسافر في البحر مثلاً . فهذا الاضطراب لا من سُكْر ، ولكن من هَوْل ما يرونه ، فيُحدث لديهم تغييراً في الغُدد والخلايا المسئولة عن التوازن ، فيتمايلون ، كمن اغتالتْه الخمر . وقوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] إنهم لم يَرَوْا العذاب بَعْد ، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم لأن الذي يَصْدُق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يَصْدُق في أن بعدها عذاباً في جهنم ، إذن : انتهت المسألة وما كنا نكذب به ، ها هو ماثل أمام أعيننا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ … } .