Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 3-3)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الجدل : هو المحاورة بين اثنين ، يريد كل منهما أنْ يؤيد رأيه ويدحضَ رأْيَ الآخر ، ومنه : جَدْل الخوص أو الحبل أي : فَتْله واحدة على الأخرى . ولو تأملتَ عملية غَزْل الصوف أو القطن لوجدته عبارة عن شعيرات قصيرة لا تتجاوز عدة سنتيمترات ، ومع ذلك يصنعون منه حَبْلاً طويلاً ، لأنهم يداخلون هذه الشعيرات بعضها في بعض ، بحيث يكون طرف الشعرة في منتصف الأخرى ، وهكذا يتم فَتْله وغَزْله ، فإذا أردتَ تقوية هذه الفَتْلة تجدِلُها مع فتلة أخرى ، وهكذا يكون الجدل في الأفكار ، فكل صاحب فكرة يحاول انْ يُقوِّي رأيه وحجته ليدحض حجة الآخرين . فقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ … } [ الحج : 3 ] فكيف يكون الجدل في الله تعالى ؟ يكون الجدل في الله وجوداً ، كالملحد الذي لا يعترف بوجود إله ، أو يكون الجدل في الوحدانية ، كمن يشرك بالله إلهاً آخر ، أو يكون الجدل في إعلام الله بشيء غيبي ، كأمر الساعة الذي ينكره البعض ولا يُصدِّقون به ، هذا كله جدل في الله . وقوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ … } [ الحج : 3 ] إذن : فالجدل في ذاته مُبَاح مشروع ، شريطة أن يصدر عن علم وفقه ، كما جاء في قوله تعالى : { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ النحل : 125 ] . فالحق سبحانه لا يمنع الجدل ، لكن يريده بالطريقة الحسنة والأسلوب اللين ، وكما يقولون : النصح ثقيل ، فلا تجعله جَدَلاً ، ولا ترسله جبلاً ، ولا تُخرِج الإنسان مما يألف بما يكره ، واقرأ قوله تعالى : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ … } [ النحل : 125 ] . وقال سبحانه : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ العنكبوت : 46 ] . لذلك فالقرآن الكريم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لَوْناً من الجدل في قوله تعالى : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] . فانظر إلى هذا الجدَل الراقي والأسلوب العالي : ففي خطابهم يقول : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا … } [ سبأ : 25 ] وينسب الإجرام إلى نفسه ، وحين يتكلم عن نفسه يقول : { وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] ولم يقُلْ هنا : تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين . وفي هذا الأسلوب ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحق . ولما اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ردَّ عليهم القرآن بالعقل وبالمنطق ، فسألهم : ما الجنون ؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركية عن غير بدائل اختيارية من المخ ، فهل جرَّبْتُم على محمد شيئاً من هذا ؟ وما هو الخُلق ؟ الخُلق : استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير ، فهل رأيتُم على محمد خلاف هذا ؟ لذلك يقول تعالى في الرد عليهم : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ … } [ سبأ : 46 ] . وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنوناً ؟ ولما قالوا : كذاب ، جادلهم القرآن : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] . لقد أتتْه الرسالة بعد الأربعين ، فهل سمعتم عنه خطيباً أو شاعراً ؟ فهل قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم ؟ وقالوا : إنها عبقرية كانت عند محمد ، فأيُّ عبقرية هذه التي تتفجَّر بعد الأربعين ، ولو تأملْتَ العبقريات لوجدتها في العقد الثاني أو الثالث من عمر صاحبها ، فكيف يُؤجِّل محمد عبقريته إلى الأربعين ، ومَنْ يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله : أبوه مات قبل أنْ يوُلد ، وأمه ماتت وهو رضيع ، وجدُّه مات وهو ما يزال صغيراً . وهكذا ، يعطينا القرآن مثالاً للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة ، للجدل الصادر عن عِلْم بما تقول ، وإدراك لحقائق الأمور . لذلك لما ذهب الشَّعْبي لملك الروم قال له الملك : عندكم في الإسلام أمور لا يُصدِّقها العقل ، فقال الشَّعْبيّ : ما الذي في الإسلام يخالف العقل ؟ قال : تقولون إن في الجنة طعاماً لا ينفد أبداً ، ونحن نعلم أن كل ما أُخذ منه مرة بعد مرة لا بُدَّ أنْ ينفد . انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون . قال الشَّعْبي : أرأيتَ لو أن عندك مصباحاً ، وجاءت الدنيا كلها فقبستْ من ضوئه ، أينقص من ضوء المصباح شيء ؟ هذا - إذن - جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى . ويستمر ملك الروم فيقول : كيف نأكل في الجنة كُلَّ ما نشتهي دون أنْ نتغوّط أو تكون لنا فضلات ؟ نقول : أرأيتم الجنين في بطن الأم : أينمو أم لا ؟ إنه ينمو يوماً بعد يوم ، وهذا دليل على أنه يتغذَّى ، فهل له فضلات ؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات ، إذن : يتغذى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموه ، بحيث لا يتبقى من غذائه شيء . ثم قال : أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد ؟ أجاب الرجل إجمالاً : تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيك ، وأمامك المصباح وفيه ضوء ، ثم نفخ المصباح فانطفأ ، فقال له : أين ذهب الضوء ؟ ومن الجدل الذي جاء عن عِلْم ودراية ما حدث من الإمام علي رضي الله عنه ، حيث قتلَ أصحابُ معاوية عمارَ بن ياسر ، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكَّروا " قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمار : " تقتله الفئة الباغية " " وأخذوا يتركون جيش معاوية واحداً بعد الآخر ، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال : لقد فشَتْ في الجيش فاشية ، إنْ هي استمرتْ فلن يبقى معنا رجل واحد ، فقال معاوية : وما هي ؟ قال : يقولون : إننا قتلنا عماراً والنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه : " تقتله الفئة الباغية " . فاحتار معاوية ثم قال : قُلْ لهم قتله مَنْ أخرجه للقتال - يعني : علي بن أبي طالب ، فلما بلغ الكلامُ سيدنا علياً ، قال : قولوا لهم : فمَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب ؟ أي : إن كان الأمر كما تقولون فالنبي صلى الله عليه وسلم هو قاتل حمزة لأنه هو الذي أخرجه للقتال . هذا هو الجدل عن علم ، والعلم قد يكون علماً بدهياً وهو العلم الذي تؤمن به ولا تستطيع أن تدلل عليه . أو علماً عقلياً استدلالياً ، وقد يكون العلم بالوحي من الله لا دَخْلَ لأحد فيه ، وسبق أنْ ضربنا مثلاً للبدهيات بالولد الصغير حينما يرى أخاه يجلس بجوار أبيه على المقعد مثلاً ، فيأتي الصغير يريد أنْ يجلس هو بجوار الأب ، فيحاول أولاً أنْ يقيم أخاه من المكان فيشدُّه ويجذبه ليخلي له المكان . وهنا نتساءل : كيف عرف الطفل الصغير أن الحيِّز لا يسع اثنين ؟ ولا يمكن أنْ يحلَّ بالمكان شيء إلا إذا خرج ما فيه أولاً ؟ هذه أمور لم نعلمها إلا في دراستنا الثانوية ، فعرفنا معنى الحيِّز وعدم تداخل الأشياء ، هذه المسألة يعرفها الطفل بديهة . ولو تأملتَ النظريات الهندسية لوجدتَ أن كل نظرية تُبنَى على نظرية سابقة ، فلو أردت أنْ تبرهن على النظرية المائة تستخدم النظرية تسعين مثلاً ، وهكذا إلى أنْ تصلَ إلى نظرية بدهية لا برهانَ عليها . وهكذا تستطيع أن تقول : إن كل شيء علمي في الكون مبنيٌّ على البدهيات التي لا تحتاج إلى برهان ، ولا تستطيع أن تضع لها تعريفاً ، فالسماء مثلاً ، يقولون هي كل ما علاك فأظَّلك ، فالسقف سماء ، والغيم سماء ، والسحاب سماء ، والسماء سماء ، مع أن السماء لا تحتاج إلى مثل هذا التعريف لأنك حين تسمع هذه الكلمة السماء تعرف معناها بديهة دون تعريف . وهذه الأمور البدهية لا جدلَ فيها لأنها واضحة ، فلو قلتَ لهذا الطفل : اجلس على أخيك ، فهذا ليس جدلاً لأنه لا يصح . أما العلم الاستدلالي فأنْ تستدل بشيء على شيء ، كأنْ تدخل بيتك فتجد عقب سيجارة مثلاً في طفاية السجائر فتسأل : مَنْ جاءكم اليوم ؟ ومثل الرجل العربي حين سار في الصحراء ، فوجد على الأرض آثاراً لخفِّ البعير وبَعْره ، فقال : البعرة تدل على البعير ، والقدم تدل على المسير . أما عِلْم الوحي فيأتي من أعلى ، يلقيه الله سبحانه على مَنْ يشاء من عباده . فعلى المجادل أن يستخدم واحداً من هذه الثلاثة ليجادل به ، فإن جادل بغير علم فهي سفسطة لا طائل من ورائها . وقد نزلت هذه الآية : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ … } [ الحج : 3 ] في النضر بن الحارث ، وكان يجادل عن غير علم في الوجود ، وفي الوحدانية ، وفي البعث … إلخ . والآية لا تخص النضر وحده ، وإنما تخص كل مَنْ فعل فِعْله ، ولَفَّ لفَّه من الجدل . ثم يقول تعالى : { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } [ الحج : 3 ] أي : أن هذا الجدل قد يكون ذاتياً من عنده ، أو بوسوسة الشيطان له بما يخالف منهج الله ، سواء أكان شيطانَ الإنس أو شيطانَ الجن . إذن : فالسيئات والانحرافات والخروج عن منهج الله لا يكون بوسوسة ، إما من النفس التي لا تنتهي عن مخالفة ، وإما من الشيطان الذي يُلِحُّ عليك إلى أنْ يوقِع بك في شِرَاكه . لكن ، لا نجعل الشيطان شماعة نعلق عليها كل سيئاتنا وخطايانا ، فليست كل الذنوب من الشيطان ، فمن الذنوب ما يكون من النفس ذاتها ، وسبق أنْ قُلْنا : إذا كان الشيطان هو الذي يوسوس بالشر ، فمَنِ الذي وسوس له أولاً ؟ وكما قال الشاعر : @ * إِبْلِيسُ لَمَّا غَوَى مَنْ كَانَ إبليسُه ؟ * @@ وفَرْق بين المعصية من طريق النفس ، والمعصية من طريق الشيطان ، الشيطان يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه ، أمّا النفس فتريدك عاصياً من وجه واحد لا تحيد عنه ، فإذا صرفتَها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك ، إلاَّ أنْ تُوقعك في هذا الشيء بالذات . وهذا بخلاف الشيطان إذا تأبيْتَ عليه ولم تُطِعْهُ في معصية صرفكَ إلى معصية أخرى ، أياً كانت ، المهم أن تعصي ، وهكذا يمكنك أنْ تُفرِّق بين المعصية من نفسك ، أو من الشيطان . ولما سُئل أحد العلماء : كيف أعرف : أأنا من أهل الدنيا أمْ من أهل الآخرة ؟ قال : هذه مسألة ليستْ عند العلماء إنما عندك أنت ، قال : كيف ؟ قال : انظر في نفسك ، فإنْ كان الذي يأخذ منك الصدقة أحبّ إليك ممَّنْ يعطيك هدية ، فاعلم أنك من أهل الآخرة ، وإنْ كانت الهدية أحبَّ إليك من الصدقة فأنت من أهل الدنيا . ذلك لأن الإنسان يحب من عمَّر له ما يحب ، فالذي يعطيك يعمر لك الدنيا التي تحبها فأنت تحبه ، وكذلك الذي يأخذ منك يعمر لك الآخرة التي تحبها فأنت تحبه . فهذه مسألة لا دَخْل للشيطان فيها . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [ لقمان : 20 ] . فهذه الآية تُجمل أنواع العلم الثلاثة التي تحدثنا عنها : فالعلم يُرَاد به البدهيات ، والهدى أي : الاستدلال ، والكتاب المنير يُراد به ما جاء وَحيْاً من الله ، وبهذه الثلاثة يجب أن يكون الجدال وبالتي هي أحسن . ومعنى : { مَّرِيدٍ } [ الحج : 3 ] من مَرَدَ أو مَرُدَ يمرد كنثر ينثُر ، والمرود : العُتوُّ وبلوغ الغاية من الفساد ، ومنها مارد ومريد ومتمرد ، والمارد : هو المستعلي أعلى منك .