Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 31-31)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اكتفتْ الآية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الإجمال ، وهما حنفاء لله ، غير مشركين به ، وحنفاء : جمع حنيف ، مأخوذة من حنف الرِّجل يعني : تقوُّسها وعدم استقامتها ، فيقال : فيه حَنَف أي : ميْل عن الاستقامة ، وليس الوصف هنا بأنهم مُعْوجون ، إنما المراد أن الاعوجاج عن الاعوجاج استقامة . لذلك وُصِف إبراهيم - عليه السلام - بأنه { كَانَ حَنِيفاً … } [ آل عمران : 67 ] يعني : مائلاً عن عبادة الأصنام . وقلنا : إن السماء لا تتدخَّل برسالة جديدة إلا حين يَعمُّ الفسادُ القومَ ، ويستشري بينهم الضلال ، وتنعدم أسباب الهداية ، حيث لا واعظَ للإنسان لا من نفسه وضميره ، ولا من دينه ، ولا من مجتمعه وبيئته ذلك لأن في النفس البشرية مناعةً للحق طبيعية ، لكن تطمسها الشهوات ، فإذا عُدِم هذا الواعظ وهذه المناعة في المجتمع تدخَّلَتْ السماء بنبي جديد ، ورسالة جديدة ، وإنذار جديد لأن الفساد عَمَّ الجميع ، ولم يَعُدْ أحد يعِظُ الآخر ويهديه . وهذا المعنى الذي قال الله فيه : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 79 ] . ومن هنا شهد الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها خير أمة أُخرِجَتْ للناس لأن المناعة للحق فيها قائمة ، ولها واعظ من نفسها يأمر بالخير ، ويأخذ على يد المنحرف حتى يستقيم لذلك قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " . والمعنى : الخير فِيَّ حصراً وفي أمتي نَثْراً ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جمع خصال الخير كله ، وخَصّه الله بالكمال ، لكن مَنْ يُطيق الكمال المحمدي من أمته ؟ لذلك نثر الله خصال الخير في جميع أمة محمد ، فأخذ كلّ واحد منهم صفةً من صفاته ، فكماله صلى الله عليه وسلم منثور في أمته : هذا كريم ، وهذا شجاع ، وهذا حليم … إلخ . ولما كان لأمة محمد هذا الدور كان هو خاتم الأنبياء لأن أمته ستؤدي رسالته من بعده ، فلا حاجة - إذن - لتدخل السماء برسالة جديدة إلى أن تقوم الساعة . إذن نقول : الرسل لا تأتي إلا عند الاعوجاج ، يأتون هم لِيُقوِّموا هذا الاعوجاج ، ويميلون عنه إلى الاستقامة ، هذا معنى الحنيف أو { حُنَفَآءَ للَّهِ … } [ الحج : 31 ] . وهذه الصفة هي مقياس الاستقامة على أوامر الله لا على أوامر البشر ، فنحن لا نضع لأنفسنا أسبابَ الكمال ثم نقول : ينبغي أن يكون كذا وكذا ، لا إنما الذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو الخالق . والحق - سبحانه وتعالى - ليس مراده من الفعل أنْ يُفعل لذاته ولمجرد الفعل ، إنما مراده من الفعل أنْ يُفعل لأنه أمر به ، وقد أوضحنا هذه المسألة بالكافر الذي يفعل الخير وينفع الناس والمجتمع ، لكن ليس من منطلق الدين وأمر الله ، إنما من منطلق الإنسانية والمكانة الاجتماعية والمهابة والمنزلة بين الناس ، ومثل هذا لا يجحفه الله حَقه ، ولا يبخسه ثواب عمله ، يعطيه لكن في الدنيا عملاً بقول الله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] . لكن لا حَظَّ لهؤلاء في ثواب الآخرة لأنهم عملوا للمجتمع وللناس وللمنزلة ، وقد أخذوا المقابل في الدنيا شُهْرة وصيتاً ذائعاً ، ومكانة وتخليداً . وفي الحديث القدسي يقول الحق سبحانه لهم : " لقد فعلْتَ ليُقال وقد قيل " وانتهت المسألة . والحق - تبارك وتعالى - ضرب لنا عدة أمثلة لهؤلاء ، فقال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . فعمل الكافر كالسراب يتراءى له من بعيد ، يظن من ورائه الخير ، وهو ليس كذلك ، حتى إذا ما عاين الأمر لم يجد شيئاً ، وفُوجِئ بوجود إله عادل لم يكُنْ في باله يوم عمل ما عمل . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ … } [ إبراهيم : 18 ] . وقال : { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ … } [ البقرة : 264 ] . وهل ينبت المطر شيئاً إذا نزل على الحجر الصَّلد الأملس ؟ هكذا عمل الكافر ، فمن أراد ثواب الآخرة فليحقق معنى { حُنَفَآءَ للَّهِ … } [ الحج : 31 ] ويعمل من منطلق أن الله أمر . إذن : العمل لا يُفعَل لأنه حسن في ذاته ، إنما لأن الله أمرك به ، بدليل أن الشارع سيأمرك بأمور لا تجد فيها حُسْناً ، ومع ذلك عليك أنْ تلتزم بها لتحقق الانضباط الذي أراده منك الشارع الحكيم ، وبعد ذلك سينكشف لك وجه الحُسْن في هذا العمل ، وتعلم الحكمة منه . خذ مثلاً موقف الإسلام من اليتيم ، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رعايته وإكرامه وكفالته حتى أنه قال : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " فكافل اليتيم قرين لرسول الله في الجنة . ففي هذا الموقف حِكَم كثيرة ، قد لا يعلمها كثير من الناس لأن اليتيم فقد أباه وهو صغير ، ونظر فلم يَجِدْ له أباً ، في حين يتمتع رفاقه بأحضان آبائهم ، فإذا لم يجد هذا الصغير حناناً من كل الناس كأنهم آباؤه لتربّي عنده شعور بالسُّخْط على الله والاعتراض على القدر الذي حرمه دون غيره من حنان الأب ورعايته . لذلك يريد الإسلام أن ينشأ اليتيم نشأة سويّة في المجتمع ، لا يسخط على الله ، ولا يسخط على الناس لأنهم جميعاً عاملوه كأنه ولد لهم . وهناك ملحظ آخر : حين ترى مكانة اليتيم ، وكيف يرعاه المجتمع وينهض به يطمئن قلبك إنْ فاجأك الموت وأولادك صغار ، هذه مناعات يجعلها الإسلام في المجتمع : مناعة في نفس اليتيم ، ومناعة فيمَنْ يرعاه ويكفله . وكفالة اليتيم وإكرامه لا بُدَّ أنْ تتم في إطار { حُنَفَآءَ للَّهِ … } [ الحج : 31 ] فيكون عملك لله خالصاً ، دون نظر إلى شيء آخر من متاع الدنيا ، كالذي يسعى للوصاية على اليتيم لينتفع بماله ، أو أن له مطمعاً في أمه … إلخ فهذا عمله كالذي قُلْنا : كسراب بقيعة أو كرماد اشتدت به الريح أو كحجر أملس صَلْد لا ينبت شيئاً . فإنْ حاول الإنسان إخلاص النية لله في مثل هذا العمل فإنه لا يأمن أنْ يخالطه شيء ، كما جاء في الحديث الشريف : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " . الصفة الثانية التي وصف الله بها عباده المؤمنين : { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ … } [ الحج : 31 ] فالشرك أمر عظيم لأن الحق - تبارك وتعالى - كما قال في الحديث القدسي - أغنى الشركاء عن الشرك ، فكيف تلجأ إلى غير الله والله موجود ؟ لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، مَنْ عمل عملاً أشرك فيه معى غيري ، تركته وشِرْكه " . ويعطينا الحق سبحانه بعدها صورة توضيحية لعاقبة الشرك : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] . خرَّ : يعني سقط من السماء لا يُمسكه شيء ، ومنه قوله تعالى : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ … } [ النحل : 26 ] . وفي الإنسان جمادية لأن قانون الجاذبية يتحكم فيه ، فإنْ صَعِد إلى أعلى لا بُدَّ أنْ يعود إلى الأرض بفعل هذه الجاذبية ، لا يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلَّقاً في الهواء ، فهذا أمر لا يملكه وخارج استطاعته ، وفي الإنسان نباتية تتمثل في النمو ، وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز ، وفيه إنسانية تتمثل في العقل والتفكير والاختيار بين البدائل ، وبهذه كُرِّم عن سائر الأجناس . وتلحظ أن خرَّ ترتبط بارتفاع بعيد { خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ … } [ الحج : 31 ] بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه ، أو تمنعه لا بذاته ولا بغيره ، وقبل أنْ يصل إلى الأرض تتخطفه الطير ، فإنْ لم تتخطفه تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلاعب به ، فهو هالك هالك لا محالةَ ، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية . وعلى العاقل أنْ يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني فيحذر هذا المصير ، فهذه حال مَنْ أشرك بالله ، فإنْ أخذتَ الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة ، فها هي الصورة أمامك واضحة ، وإنْ أردتَ تفسيراً آخر يُوضِّح أجزاءها : فالسماء هي الإسلام ، والطير هي الشهوات ، والريح هي ريح الشيطان ، يتلاعب به هنا وهناك . فأيُّ ضياع بعد هذا ؟ ومَنْ ذا الذي ينقذه من هذا المصير ؟ ثم يقول سبحانه : { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ … } .