Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 40-40)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فلو أنهم أُخْرِجوا بحقٍّ كأنْ فعلوا شيئاً يستدعي إخراجهم من ديارهم ، كأنْ خدشوا الحياء ، أو هددوا الأمْن ، أو أجرموا ، أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكانَ إخراجهُم بحقٍّ . إنما الواقع أنهم ما فعلوا شيئاً ، وليس لهم ذَنْب { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ … } [ الحج : 40 ] هذه المقولة اعتبرها القوم ذَنْباً وجريمة تستحق أنْ يخرجوهم بها من ديارهم . كما قال سبحانه في أهل الأخدود : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] . وفي آية أخرى : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ … } [ المائدة : 59 ] . وفي قصة لوط عليه السلام : { قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] . إذن : أخرجوهم ، لا لأنهم أهل نجاسة ومعصية ، إنما لأنهم أناسٌ يتطهَّرون ، فالطهارة والعفة جريمتهم التي يُخْرَجُون من أجلها ! ! كما تقول : لا عيْبَ في فلان إلا أنه كريم ، أو تقول : لا كرامةَ في فلان إلا أنه لِصٌّ . فهذه - إذن - صفة لا تمدح ، وتلك صفة لا تذم . لقد قلب هؤلاء الموازين ، وخالفوا الطبيعة السويّة بهذه الأحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع ، وأيّ فساد بعد أنْ قَلَبوا المعايير ، فكرهوا ما يجب أنْ يُحب ، وأحبوا ما يجب أن يكره ؟ ولا أدلَّ على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر ، وترْكهِم عبادة خالق السماوات والأرض . ثم يقول تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً … } [ الحج : 40 ] . وفي آية أخرى يُبيِّن الحق سبحانه نتيجة انعدام هذا التدافع : { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ … } [ البقرة : 251 ] . والفساد إنْ حدث بين الناس في حركة الحياة فيمكن أنْ يُعوَّض ويُتدارك ، أما إنْ تعدّى الفساد إلى مُقوِّمات اليقين الإيماني في الأرض فَكرِه الناس ما يربطهم بالسماء ، وهدموا أماكن العبادة ، فهذه الطامة والفساد الذي لا صلاحَ بعده ، فكأن الآيتين تصوران نوعاً من الإيغال في الفساد ، والاتّضاع في الجرائم . وتفسد الأرض حين ينعدم هذا التدافع ، كيف ؟ هَبْ أن ظالماً مسْتبداً في بلد ما يستعبد الناس ويمتصّ خيراتهم بل ودماءهم دون أنْ يردَّه أحد ، لا شكَّ أن هذا سيُحدث في المجتمع تهاوناً وفوضى ، ولن يجتهد أحد فوق طاقته ، ولمن سيعمل وخيره لغيره ؟ وهذا بداية الفساد في الأرض . فإنْ قُلْنا : هذا فساد بين الناس في حركة حياتهم يمكن أنْ يصلح فيما بعد ، فما بالك إن امتدَّ الفساد إلى أماكن الطاعات والعبادات ، وقطع بين الناس الرباط الذي يربطهم بالسماء ؟ إنْ كان الفساد الأول قابلاً للإصلاح ، ففساد الدين لا يصلح ، لأنك خرَّبْتَ الموازين التي كانت تُنظِّم حركة الحياة ، فأصبح المجتمع بلا ميزان وبلا ضوابط يرجع إليها . ونلْحظُ في قوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . } [ الحج : 40 ] جاءت قضية عامة لكل الناس ، فلم يخصْ طائفة دون أخرى ، فلم يَقُلْ مثلاً : لولا دَفْع الله الكافرين بالمؤمنين ، إنما قال مُطلْق الناس لأنها قضية عامة يستوي فيها الجميع في كل المجتمعات . كذلك جاءت كلمة بعض عامة لتدل على أن كلاَ الطرفين صالح أن يكون مدفوعاً مرة ، ومدفوعاً عنه أخرى ، فَهُمْ لبعض بالمرصاد : مَنْ أفسد يتصدى له الآخر لِيُوقِفه عند حَدِّه ، فليس المراد أن طائفة تدفع طائفة على طول الخط . ومثال ذلك قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ … } [ الزخرف : 32 ] دون أنْ يُحدِّد أيّهما مرفوع ، وأيهما مرفوع عليه لأن كلاً منهما مرفوع في شيء ، ومرفوع عليه في شيء آخر ذلك لأن العباد كلهم عيال الله ، لا يُحابي منهم أحداً على أحد . انظر الآن إلى قوة روسيا في الشرق وقوة أمريكا في الغرب ، إنهما مثال لقوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ … } [ الحج : 40 ] فكلٌّ منهما تقف للأخرى بالمرصاد ، ترقبها وترصُد تحركاتها وتقدّمها العسكري ، وكأن الله تعالى جعلهما لحماية سلامة الآخرين أنْ تقف كُلٌّ منهما موقفَ الحذَر والخوف من الأخرى . وهذا الخوف والترقُّب والإعداد هو الذي يمنع اندلاع الحرب بينهما ، فما بالك لو قامت بينهما حرب أسفرت عن منتصر ومهزوم ؟ لا بُدَّ أن المنتصر سيعيثُ في الأرض فساداً ويستبد بالآخرين ، ويستشري ظُلْمه لعدم وجود مَنْ يُردِعه . ومن رحمة الله بالمؤمنين أنْ يكيد الظالمين بالظالمين بكل ألوانهم وفنونهم ، ويؤدِّب الظالم بمَنْ هو أشد منه ظُلْماً ليظلّ أهلُ الخير بعيدين عن هذه المعركة ، لا يدخلون طَرَفاً فيها لأن الأخيار لا يصمدون أمام هذه العمليات ، لأنهم قوم رِقَاق القلوب ، لا تناسبهم هذه القسوة وهذه الغِلْظة في الانتقام . اقرأ قول الله تعالى : { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] . وهكذا يُوفِّر الله أهل الخير ، ويحْقِن دماءهم ، ويُريح أولياءه من مثل هذه الصراعات الباطلة . لذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخولَ المنتصر ، بعد أنْ أخرجه قومه منها ، وبعد أنْ فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل ، كيف دخلها وهو القائد المنتصر الذي تمكَّن من رقاب أعدائه ؟ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مُطأطىء الرأس ، حتى لتكاد رأسه تلمس قربوس السرج الذي يجلس عليه ، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك قال أبو سفيان لما رأى رسول الله في هذا الموقف ، قال للعباس : لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً . وبعد أن تمكَّن رسول الله من كفار مكة ، وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم ، قال : " يا معشر قريش ، ما تظنُّون أَنِّي فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : فاذهبوا فأنتم الطلقاء " . فأيُّ رحمة هذه ؟ وأيُّ لين هذا الذي جعله الله في قلوب المؤمنين ؟ وهل مِثْل هذا الدين يُعارَض ويُنْصَرف عنه ؟ إذن : يُسلِّط الحق - تبارك وتعالى - الأشرار بعضهم على بعض ، وهذه آية نراها في الظالمين في كل زمان ومكان ، ويجلس الأخيار يرقبون مثل هذه الصراعات التي يُهلِك الله فيها الظالمين بالظالمين . ثم يقول سبحانه وتعالى : { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ … } [ الحج : 40 ] صوامع جمع صومعة ، وهي مكان خاصٌّ للعبادة عند النصارى ، وعندهم مُتعبَّد عام يدخله الجميع هو الكنائس ، أما الصَّومعة فهي مكان خاص لينفرد فيه صاحبه وينقطع للعبادة ، ولا تكون الصَّوْمعة في حضر ، إنما تكون في الجبال والأودية ، بعيداً عن العمران لينقطع فيها الراهب عن حركة حياة الناس ، وهي التي يسمونها الأديرة وتوجد في الأماكن البعيدة . وقد حرم الإسلام الرهبانية بهذا المعنى لأنها رهبانية ما شرّعها الله ، كما قال سبحانه : { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا … } [ الحديد : 27 ] . ومعنى : { وَبِيَعٌ … } [ الحج : 40 ] البِيعَ هي الكنائس . فالحق - سبحانه وتعالى - مَا نَعَى عليهم الانقطاعَ للعبادة ، لكن نعى عليهم انقطاعهم عن حركة الحياة ، وأسباب العيش لذلك قال : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا … } [ الحديد : 27 ] . وقد أباح الإسلام أيضاً الترهُّب والانقطاع للعبادة ، لكن شريطة أن تكون في جَلْوة يعني : بين الناس ، لا تعتزل حركة الحياة ، إنما تعبَّد الله في كل حركة من حركات حياتك ، وتجعل الله تعالى دائماً في بالك ونُصْب عينيك في كُلِّ ما تأتي ، وفي كل ما تدَع ، إذن : هناك فَرْق بين مَنْ يعبد الله في خَلْوته ، ومَنْ يعبد الله في جَلْوته . لذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - قال عن الرجل الذي لازم المسجد للعبادة وعرف أن أخاه يتكفّل به ويُنفق عليه ، قال : أخوه أعبد منه . كيف ؟ قالوا : لأنك تستطيع أنْ تجعل من كل حركة لك في الحياة عبادة ، حين تُخِلص النية فيها لله عز وجل . ولك أن تقارن بين مؤمن وكافر ، كلاهما يعمل ويجتهد لِيقُوتَ نفسه وأهل بيته ، ويحيا الحياة الكريمة ، وهذا هدف الجميع من العمل ، لكن لو أن المؤمن اقتصر في عمله على هذا الهدف لاستوى مع الكافر تماماً . إنما للمؤمن فوق هذا مقاصد أخرى تكمن في نيته وضميره ، المؤمن يفعل على قَدْر طاقته ، لا على قَدْر حاجته ، ثم يأخذ ما يحتاج إليه ويُنفِق من الباقي ويتصدَّق على مَنْ لا يقدر على الحركة الحياتية . لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 1 - 4 ] هل يعني : مُؤدُّون فقط ؟ لا ، بل إن المؤمن يتحرك ويعمل ويسعى ، وفي نيته مَنْ لا يقدر على السَّعْي والعمل ، فكأنه يُقبل على العمل ويجتهد فيه ، وفي نيته أنْ يعمل شيئاً لله بما يفيض عن حاجته من ناتج عمله وهذا ما يُميِّز المؤمن في حركة الحياة عن الكافر . وأذكر مرة أننا جئنا من الريف في الشتاء في الثلاثينيات لزيارة سيدنا الشيخ الحافظ التيجاني ، وكان مريضاً - رحمه الله ورضي الله عنه - وكان يسكن في حارة ، وفضَّلنا أن نأخذ تاكسي يُوصِّلنا بدل أن نمشي في وَحْل الشتاء ، وعند مدخل الحارة رفض سائق التاكسي الدخول وقال : إن أجرة التوصيل لا تكفي لغسيل السيارة وتنظيفها من هذا الوَحْل ، وبعد إلحاح وافق وأوصلنا إلى حيث نريد ، فأعطيناه ضِعْف أجرته ، لكني قبل أن أنصرف قلتُ له : أنت لماذا تعمل على هذا التاكسي ولماذا تتعب ؟ قال : من أجل مصالحي ومصالح أولادي ، فقلت له : وما يُضيرك إنْ زِدْتَ على ذلك وجعلْتَ في نيتك أنْ تُيسِّر بعملك هذا على الناس ؟ فاهتمّ الرجل ولبسته الكلمة فقال : والله لا أردُّ راكباً أبداً . ومعنى : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 4 ] لم يقل مؤدون لأن { فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 4 ] تعني : أن نيتهم في الفعل أنْ يفعلوا على قَدْر طاقتهم ويجتهدوا لتوفير شيء بعد نفقاتهم يتصدقون منه . إذن : حرَّم الإسلام الرهبانية التي تَحرِم المجتمع من مشاركة الإنسان فقال صلى الله عليه وسلم : " لا رهبانية في الإسلام " لأنه اعتبر كل حركة مقصودٍ منها صالحُ المجتمع كله حركةً إيمانية عبادية ، ومن هنا كان العمل عبادة . وقد وضع العلماء شروطاً لمَنْ أراد الانقطاع للعبادة : أولها : ألاَّ يأخذ نفقته من أحد ، بمعنى أن يعمل أولاً لِيُوفِّر احتياجاته طوال فترة انقطاعه ، وصدق إقبال حين قال : @ لَيْسَ زُهْداً تصوف من تقي فرَّ من غَمْرة الحيَاةِ بدين إنما يُعرَفُ التصَوفُ فِي الـ سُّوق بمالٍ ومَطْمعٍ وفُتُون @@ ثم يقول تعالى : { وَصَلَوَاتٌ … } [ الحج : 40 ] وهذه لليهود يُسمُّون مكان التعبد : صَالوتاً . لكن ، لماذا لم يرتبها القرآن ترتيباً زمنياً ، فيقول : لهدمت صلوات وصوامع وبيع ؟ قالوا : لأن القرآن يُؤرِّخ للقريب منه فالأبعد . { وَمَسَاجِدُ … } [ الحج : 40 ] وهذه للمسلمين { يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً … } [ الحج : 40 ] . وما دام الحق سبحانه ذكر المساجد بعد الفعل { لَّهُدِّمَتْ … } [ الحج : 40 ] فهذا دليل على أنه لا بُدَّ أن يكون للمسلمين مكان يُحكر للعبادة ، وإنْ جُعِلَتْ الأرض كلها لهم مسجداً وطَهُوراً ، ومعنى ذلك أنْ تصلي في أيِّ بقعة من الأرض ، وإنْ عُدِم الماء تتطهر بترابها ، وبذلك تكون الأرض مَحَلاً للعبادة ومَحَلاً لحركة الحياة وللعمل وللسَّعْي ، فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك مثلاً وتُصلِّي فيه ، لكن الحق سبحانه يريد منا أن نُخصِّص بعض أرضه ليكون بيتاً له تنقطع منه حركة الحياة كلها ، ويُوقَف فقط لأمور العبادة . لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بنى لله مسجداً ولو كمِفْحَصِ قَطَاةٍ بنى الله له بيتاً في الجنة " . فقوله تعالى : { لَّهُدِّمَتْ … وَمَسَاجِدُ … } [ الحج : 40 ] تدل على مكان خاص للعبادة وإلاَّ لو اعتُبرَتْ الأرضُ كلها مسجداً ، فماذا تهدم ؟ وعليه ، فكل مكان تُزاوَل فيه أمورٌ غير العبادة لا يُعتبر مسجداً ، كأماكن الصلاة التي يتخذونها تحت العمارات السكنية ، هذه ليست مساجد ، والصلاة فيها كالصلاة في الشارع وفي البيت لأن المسجد مكان وما يُبنى عليه مكين . والمسجدية تعني : المكان من الأرض إلى السماء ، بدليل أننا في بيت الله الحرام نصلي فوق سطح المسجد ، ونتجه لجوِّ الكعبة ، لا للكعبة ذاتها ، لماذا ؟ لأن جَوَّ الكعبة إلى السماء كعبة ، وكذلك لو كنا في مخابىء أو في مناجم تحت الأرض لأن ما تحت الكعبة من الأرض كعبة . وكذلك في المسْعَى إذا ضاق الدور الأول يسعى الناس في الثاني وفي السطح ، لأن جو المسْعَى مَسْعَى . إذن : المسجد ما حُكِر للعبادة ، وخُصِّص للمسجدية من أرضه إلى سمائه ، وهذا لا يُمارس فيه عمل دنيوي ولا تُعقد فيه صفقة … إلخ . أما أنْ نجعل المسجد تحت عمارة سكنية ، وفوق المسجد مباشرة يباشر الناس حياتهم ومعيشتهم بما فيها من هَرج ولَهْو ، حلال وحرام ، وطهارة ونجاسة ، ومعاشرة زوجية … إلخ فهذا كله يتنافى مع المسجدية التي جعلها الله حِكْراً للعبادة من الأرض إلى السماء . فلنُسَمِّ هذه الأماكن : مُصلّى . ولا نقول : مسجد . ثم يصف الحق سبحانه المساجد بقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً … } [ الحج : 40 ] لأن ذِكْر الله في المساجد دائم لا ينقطع ، ونحن لا نتحدث عن مسجد ، ولا عن مساجد قُطْر من الأقطار ، إنما المراد مساجد الدنيا كلها من أقصى الشرق لأقصى الغرب ، ومن الشمال للجنوب . ولو نظرتَ إلى أوقات الصلوات لرأيتَ أنها مرتبطة بحركة الفلك وبالشمس في الشروق ، وفي الزوال ، وفي الغروب ، وباعتبار فارق التوقيت في كل بلاد الله تجد أن ذِكْر الله دائم لا ينقطع أبداً في ليل أو نهار ، فأنت تُؤذِّن للصلاة ، وغيرُك يقيم ، وغيركما يصلي ، أنت تصلي الظهر ، وغيرك يصلي الصبح أو العصر ، بل أنت في الركعة الأولى من الصبح ، وغيرك في الركعة الثانية ، أنت تركع وغيرك يسجد . إذن : هي منظومة عبادية دائمة في كل وقت ، ودائرة في كل مكان من الأرض ، فلا ينفكّ الكون ذاكراً لله . أليس هذا ذِكْراً كثيراً ؟ أليستْ كلمة الله أكبرُ دائرة على ألسنة الخلق لا تنتهي أبداً ؟ ثم لما كان دَفْع الله الناسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة تُسْفر عن منتصر ومنهزم ، قال سبحانه : { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ … } [ الحج : 40 ] فإنْ كان التدافع بين الكفار فإنه لا ينتهي ، وإنْ كان بين حقٍّ لله وباطل حكم الله بأنه باطل لا بُدَّ أن تنتهي بنُصْرة الحق ، وغالباً لا تطول هذه المعركة لأن الحق دائماً في حضانة الله ، إنما تطول المعارك بين باطل وباطل ، فليس أحدهما أَوْلَى بنُصْرة الله من الآخر ، فيظل كل منهما يطحن في الآخر ، وإنْ لم تكن حرباً ساخنة كانت حرباً باردة ، لماذا ؟ لأنه لا يوجد قويٌّ لا هوى له يستطيع أن يفصل فيها ، وطالما تدخّل الهوى تستمر المعركة . يبقى في القسمة العقلية المعركة بين حق وحق ، وهذه لا وجودَ لها لأن الحق واحد في الوجود ، فلا يمكن أنْ يحدث تصادم أبداً بين أهل الحق . والحق - تبارك وتعالى - في نُصْرته لأوليائه يستطيع أن ينصرهم دون حرب ، ويُهلك أعداءهم ، لكن الحق سبحانه يريد أنْ يأخذوا هم بأسباب النصر لذلك يُعلّمهم أصول هذه المسألة ، فيقول سبحانه : { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ … } [ محمد : 4 ] . ومعنى { أَثْخَنتُمُوهُمْ … } [ محمد : 4 ] يعني : جعلتموهم لا يقدرون على الحركة { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ … } [ محمد : 4 ] لا تُجهِزوا عليهم ، ولا تقتلوهم ، إنما شُدُّوا قيودهم واستأسِروهم ، وهذه من رحمة الإسلام وآدابه في الحروب ، فليس الهدف القتل وإزهاق الأرواح ثم { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً … } [ محمد : 4 ] مَنّاً إنْ كان هناك تبادل للأسرى . فأنت تمنُّ وهو يمنُّ . والفداء أنْ يفدي نفسه . وكانت هذه المسألة حجة لنا حينما نتحدث عن الرقِّ في الإسلام ، ونرد على هؤلاء الذين يحلو لهم اتهام الإسلام ، ويستخدمون في ذلك السفسطة والمراوغة اللغوية لإقناع الناس بأن الإسلام ساهم في نَشْر الرقِّ والعبودية . ونقول : لقد جاء الإسلام والرق موجود ومنتشر لم يُشرِّعه الإسلام ، ولم يُوجِدْه بداية ، حيث كانت أسباب الرق كثيرة ، وأسباب الاستعباد متعددة : فَمنْ تحمّل دَيْناً وعجز عن سداده يُسْتعبد لصاحب الدين ، ومَنْ عمل ذنباً وخاف من عقوبته أخذوه عبداً ، ومَنْ اختطفه الأشرار في الطريق جعلوه عبداً … إلخ . فلما جاء الإسلام عمل على سَدِّ منابع الرقِّ هذه ، وجعل الرقَّ مقصوراً على الحرب المشروعة . ثم فتح عدة مصارف شرعية للتخلُّص من الرق القائم ، حيث لم يكُنْ موجوداً من أبواب العتق إلا إرادة السيد في أنْ يعتق عبده ، فأضاف الإسلام إلى هذا الباب أبواباً أخرى ، فجعل العتق كفارة لبعض الذنوب ، وكفارة لليمين ، وكفارة للظِّهار ، وحثَّ على الصدقة في سبيل العتق ، ومساعدة المكاتب الذي يريد العتق ويسعى إليه … إلخ . فإذا لم تعتق عبدك ، فلا أقل من أن تطعمه من طعامك ، وتُلْبسه من ملبسك ، ولا تُحمِّله ما لا يطيق ، وإنْ حمَّلْته فأعِنْه ، وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هم إخوانكم " . ونلاحظ على الذين يعيبون على الإسلام مسألة الرقِّ في الحروب أنهم يقارنون بين الرِّق والحرية ، لكن المقارنة هنا ليستْ كذلك ، المقارنة هنا بين الرق والقتل لأنه لا يُسترقّ إلا مَنْ قدر المسترقُّ عليه وتمكَّن منه في المعركة ، وكان باستطاعته قَتْله ، لكن رحمة الله بعباده منعتْ قتله ، وأباحت أَخْذه رقيقاً ، فالنفعية للمقاتل المنتصر يقابلها حَقْن دم الآخر ، ثم بعد انتهاء الحرب نحثُّ على عتقه ، ونفتح له أبواب الحرية . إذن : لا تقارن بين عبد وحر ، إنما قارن بين العبودية والقتل : أيهما أقلّ ضرراً ؟ لذلك قال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 - 15 ] . هذه نتائج سِتٌّ للأمر { قَاتِلُوهُمْ … } [ التوبة : 14 ] وجواب الأمر مجزوم بالسكون كما في يُعذِّبْهم ومجزوم بحذف حرف العلة كما في وَيُخْزِهِم ، والخزي لأنهم كانوا مغترين بقوتهم ، ولديهم جبروت مفتعل ، يظنون أَلاَّ يقدر عليهم أحد ، وكذلك في : ينصركم ، ويشف ، ويذهب . ثم قطع السياقُ الحكمَ السابق ، واستأنف كلاماً جديداً ، وإنْ كان معطوفاً على ما قبله في اللفظ ، وهذا مظهر من مظاهر الدقة في الأداء القرآني ، ومَلْحَظ لرحمة الله تعالى حتى بالكفار ، فقال تعالى : { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ … } [ التوبة : 15 ] هكذا بالرفع ، لا بالجزم فقطع الفعل يتوب عما قبله لأن الله تعالى لم يشأ أن يشرِّك بينهم حتى في جواب الأمر . وحتى على اعتبار أنهم هُزِمُوا ، وكُسِرت شوكتهم ، وضاعتْ هيبتهم ، لعلهم يفيقون لأنفسهم ، ويعودون للحق ، وهذه من رحمة بالكافرين في معاركهم مع الإيمان . لكن ، لماذا يتوب الله على الكفار ويرحمهم وهم أعداء دينه وأعداء نبيه ؟ قالوا : لأنه سبحانه وتعالى ربهم وخالقهم ، وهم عباده وعياله ، وهو أرحم بهم ، ومرادات الله في الخَلْق أن يكونوا جميعاً طائعين . لذلك ، يقول سبحانه في الحديث القدسي : " قالت السماء : يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الأرض : يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الجبال : يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت البحار : يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك " . فالكون كله ناقم على الكافرين ، متمرد على العصاة ، مغتاظ منهم ، فماذا قال الحق - تبارك وتعالى - لهم ؟ قال سبحانه : " دعوني وخَلْقي ، لو خلقتموهم لرحمتموهم ، فإنْ تابوا إليَّ ، فأنا حبيبهم ، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم " . نعود إلى قوله تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ … } [ الحج : 40 ] وما دام أن النصر من عند الله فإياكم أنْ تبحثوا في القوة أو تقيسوا قوتكم بقوة عدوكم ، فلربك عز وجل جنود لا يعلمها إلا هو ، ووسائل النصر وأنت في حضانة الله كثيرة تأتيك من حيث لا تحتسب وبأهْون الأسباب ، أقلّها أن الله يُريكم أعداءكم قليلاً ويُكثِّر المؤمنين في أعين الكافرين ليفتَّ ذلك في عَضُدهم ويُرهبهم ويُزعزع معنوياتهم ، وقد يحدث العكس ، فيرى الكفار المؤمنين قليلاً فيجترئون عليهم ، ويتقدمون ، ثم تفاجئهم الحقيقة . إذن : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ … } [ المدثر : 31 ] فلا تُعوِّل فقط على قوتك وتحسب مدى تكافُئِك مع عدوك ، دَعْكَ من هذه الحسابات ، وما عليك إلا أنْ تستنفد وسائلك وأسبابك ، ثم تدع المجال لأسباب السماء . وأقلُّ جنود ربك أنْ يُلقي الرعب في قلوب أعدائك ، وهذه وحدها كافية ، ويُرْوى أنهم في إحدى المعارك الإسلامية تغيرت رائحة أفواه المسلمين ، وأحسُّوا فيها بالمرارة لطول فترة القتال ، فأخرجوا السواك يُنظفِّون أسنانهم ، ويُطيِّبون أفواههم ، عندها قال الكفار : إنهم يسنُّون أسنانهم ليأكلونا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب من حيث لا يدرون . ثم يقول تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] عزيز : يعني لا يُغلب ، وما دام أن الله تعالى ينصر مَنْ نصره فلا بُدَّ أن تنتهي المعركة بالنصر مهما خارتْ القوى ومهما ضَعُفتْ ، ألم يكُن المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين ، لا يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه بين الكفار ؟ ولما نزل قول الله تعالى وهم على هذه الحال : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] تعجب عمر بفراسته وعبقريته : أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ونحن غير قادرين حتى على حماية أنفسنا ؟ فلما رأى يوم بدر قال : صدق الله { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . فما دام أن الله قوي عزيز فلا بُدَّ أن ينصركم ، وهذه مسألة محكوم بها أزلاً : { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي … } [ المجادلة : 21 ] . فإذا تمَّتْ لكم الغَلَبة ، فاعلموا أن لكم دَوْراً ، أَلاَ وهو : { ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ … } .