Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 46-46)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

السَّيْر : قَطْع مسافات من مكان إلى آخر ، ويسمونه السياحة ، والحق سبحانه يدعو عباده إلى السياحة في أنحاء الأرض لأن للسياحة فائدتين : فإما أنْ تكون سياحة استثمارية لاستنباط الرزق إنْ كنتَ في مكان يضيق بك العيش فيه ، كهؤلاء الذين يسافرون للبلاد الأخرى للعمل وطلب الرزق . وإما أن تكون سياحة لأَخْذ العبرة والتأمل في مخلوقات الله في مُلْكه الواسع ليستدل بخَلْق الله وآياته على قدرته تعالى . والسياحة في البلاد المختلفة تتيح لك فرصة ملاحظة الاختلافات من بيئة لأخرى ، فهذه حارة وهذه باردة ، وهذه صحراء جرداء وهذه خضراء لا يوجد بها حبة رمل ، لذلك يخاطبنا ربنا تبارك وتعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ … } [ الأنعام : 11 ] . فالعطف في الآية بـ ثُمَّ يدل على أن للسياحة مهمة أخرى ، هي الاستثمار وطلب الرزق ، ففي الآية إشارة إلى الجمع بين هاتين المهمتين ، فحين تذهب للعمل إياك أنْ تغفل عن آيات الله في المكان الذي سافرت إليه ، وخُذْ منه عبرة كونية تفيدك في دينك . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَاْنظُرُواْ } [ النمل : 69 ] . العطف هنا بالفاء التي تفيد الترتيب ، يعني : سيروا في الأرض لتنظروا آيات الله ، فهي خاصة بسياحة الاعتبار والتأمل ، لا سياحة الاستثمار وطلب الرزق . لذلك يقولون في الأمثال : اللي يعيش ياما يشوف ، واللي يمشي يشوف أكثر فكلما تعددتْ الأماكن تعددت الآيات والعجائب الدالة على قدرة الله ، وقد ترى منظراً لا يؤثر فيك ، وترى منظراً آخر يهزُّك ويُحرِّك عواطفك ، وتأملاتك في الكون . وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ … } [ الحج : 46 ] تعني وتؤكد أنهم ساروا فعلاً ، كما تقول : أفلم أُكرمك ؟ ولا تقول هذا إلا إذا أكرمته فعلاً ، وقد حدث أنهم ساروا فعلاً في البلاد أثناء رحلة الشتاء والصيف ، وكانوا يمرون على ديار القوم المهلكين ، كما قال تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] . يعني : أنتم أهل سَيْر وترحال وأهل نظر في مصير مَنْ قبلكم ، فكيف يقبل منكم الانصراف عن آيات الله ؟ { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فما داموا قد ساروا وترحَّلوا في البلاد ، فكيف لا يعقلون آيات الله ؟ وكيف لا تُحرِّك قلوبهم ؟ ولنا وقفة عند قوله تعالى : { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ … } [ الحج : 46 ] وهل يعقِل الإنسانُ بقلبه ؟ معلوم أن العقل في المخ ، والقلب في الصدر . نعم ، للإنسان وسائل إدراك هي الحواس التي تلتقط المحسَّات يُسمُّونها تأدُّباً مع العلم : الحواس الخمس الظاهرة لأن العلم أثبت للإنسان في وظائف الأعضاء حواساً أخرى غير ظاهرة ، فحين تُمسِك بشيئين مختلفين يمكنك أن تُميِّز أيهما أثقل من الآخر ، فبأيِّ حاسة من الحواس الخمس المعروفة توصلْتَ إلى هذه النتيجة ؟ إنْ قُلْتَ بالعين فدعْها على الأرض وانظر إليها ، وإنْ قُلْتَ باللمس فلك أنْ تلمسها دون أنْ ترفعها من مكانها ، إذن : فأنت لا تدرك الثقل بهذه الحواس ، إنما بشيء آخر وبآلة إدراك أخرى هي حاسة العَضَلِ الذي يُميِّز لك الخفيف من الثقيل . وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك ، فتستطيع أنْ تُميِّز الثخين من الرقيق ، مع أن الفارق بينهما لا يكاد يُذْكَر ، فبأيِّ حاسة أدركْتَه ؟ إنها حاسة البَيْن . كذلك هناك حاسة البُعْد وغيرها من الحواسّ التي يكتشفها العلم الحديث في الإنسان . فلما يدرك الإنسان هذه الأشياء بوسائل الإدراك يتدخَّل العقل ليغربل هذه المدركات ، ويختار من البدائل ما يناسبه ، فإنْ كان سيختار ثوباً يقول : هذا أنعم وأرقّ من هذا ، وإنْ كان سيختار رائحة يقول : هذه ألطف من هذه ، إنْ كان في الصيف اختار الخفيف ، وإنْ كان في الشتاء اختار السميك . وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذِّهْن وتقتنع بها ، ولا تحتاج لإدراك بعد ذلك ، ولا لاختيار بين البدائل ، وعندها تنفذ ما استقر في نفسك ، وارتحْتَ إليه بقلبك . إذن : إدراك بالحواس وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب ، وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد أصبح دستوراً لحياتك ، وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيتَ إليه ، واستقر في قلبك ووجدانك . لكن ، لماذا القلب بالذات ؟ قالوا : لأن القلب هو الذي يقوم بعملية ضَخِّ سائل الحياة ، وهو الدم في جميع أجزاء الجسم وجوارحه ، وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقر في الوجدان لذلك قالوا : الإيمان محلّه القلب ، كيف ؟ قالوا : لأنك غربلْتَ المسائل وصفَّيْت القضايا إلى أن استقرت العقيدة والإيمان في قلبك ، والإيمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقرَّ فيه ، ومن القلب تمتد العقيدة إلى جميع الأعضاء والحواس التي تقوم بالعمل بمقتضى هذا الإيمان ، وما دُمْتَ قد انتهيتَ إلى مبدأ وعقيدة ، فإياك أنْ تخالفه إلى غيره ، وإلاَّ فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه . وكلمة { يَعْقِلُونَ بِهَآ } [ الحج : 46 ] تدل على أن للعقل مهام أخرى غير أنه يختار ويفاضل بين البدائل ، فالعقل من مهامه أنْ يعقل صاحبه عن الخطأ ، ويعقله أنْ يشرد في المتاهات ، والبعض يظن أن معنى عقل يعني حرية الفكر وأنْ يشطح المرء بعقله في الأفكار كيف يشاء ، لا ، العقل من عِقَال الناقة الذي يمنعها ، ويحجزها أنْ تشرُدَ منك . ثم يقول سبحانه : { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [ الحج : 46 ] كيف ولهؤلاء القوم آذان تسمع ؟ نعم ، لهم آذان تسمع ، لكن سماع لا فائدة منه ، فكأن الحاسَّة غير موجودة ، وإلا ما فائدة شيء سمعتَه لكن لم تستفد به ولم تُوظِّفه في حركة حياتك ، إنه سماع كعدمه ، بل إن عدمه أفضل منه لأن سماعك يقيم عليك الحجة . { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فعمى الأبصار شيء هيِّن ، إذا ما قِيسَ بعمى القلوب لأن الإنسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أنْ يسمع ، وأنْ يُعمل عقله ، وأنْ يهتدي ، ومَا لا يراه بعينه يمكن أنْ يخبره به غيره ، ويَصِفه له وَصْفا دقيقاً وكأنه يراه ، لكن ما العمل إذا عَميَتْ القلوب ، والأنظار مبصرة ؟ وإذا كان لعمى الأبصار بديل وعِوَض ، فما البديل إذا عَمي القلب ؟ الأعمى يحاول أنْ يتحسَّس طريقه ، فإنْ عجز قال لك : خُذْ بيدي ، أما أعمى القلب فماذا يفعل ؟ لذلك ، نقول لمن يغفل عن الشيء الواضح والمبدأ المستقر : أعمى قَلْب . يعني : طُمِس على قلبه فلا يعي شيئاً . وقوله : { ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] معلوم أن القلوب في الصدور ، فلماذا جاء التعبيرهكذا ؟ قالوا : ليؤكد لك على أن المراد القلب الحقيقي ، حتى لا تظن أنه القلب التفكيريّ التعقليّ ، كما جاء في قوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] . ومعلوم أن القَوْل من الأفواه ، لكنه أراد أن يؤكد على القول والكلام لأن القول قد يكون بالإشارة والدلالة ، فالقول بالكلام هو أبلغ أنواع القول وآكده لذلك قال الشاعر : @ جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ولاَ يُلْتَامُ مَا جَرَح اللسَانُ @@ ويقولون : احفظ لسانك الذي بين فكَّيْك ، وهل اللسان إلا بين الفكَّيْن ؟ لكن أراد التوكيد على القول والكلام خاصة ، لا على طرق التفاهم والتعبير الأخرى . ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ … } .