Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 52-52)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أثارت هذه الآية جدلاً طويلاً بين العلماء ، ودخل فيه كثير من الحشْو والإسرائيليات ، خاصة حول معنى { تَمَنَّى } [ الحج : 52 ] وهي تَرد في اللغة بمعنيين ، وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس أحدهما أَوَْلَى من الآخر إلا بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية ، ويأتي التمني في اللغة بمعنى القراءة ، كما ورد في قول حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان رضي الله عنهما : @ تمنَّى كِتابَ اللهِ أوَّلَ لَيْلةٍ وآخِرَهَا وَافَاهُ حَتْم المقَادِرِ @@ يعني : قُتِل عثمان وهو يقرأ القرآن ، وهذا المعنى غريب في حَمْل القرآن عليه لعدم شيوعه . وتأتي تمنى بمعنى : أحب أن يكون الشيء ، وهذا هو القول المشهور في لغة العرب . أما بمعنى قرأ فهو غير شائع ، ويُردّ هذا القول ، وينقضه نَقْضاً أولياً مبدئياً قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ … } [ الحج : 52 ] . ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه ، أمّا النبي فلا ينزل عليه كتاب ، بل يعمل بشرع مَنْ سبقه من الرسل . إذن : فما دام الرسول والنبي مشتركيْن في إلقاء الشيطان ، فلا بُدَّ أن تكون الأمنية هنا بمعنى : أحب أن يكون الشيء ، لا بمعنى قرأ ، فأيُّ شيء سيقرأ النبي وَليس معه كتاب ؟ والذين فهموا التمني في قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] أنه بمعنى : قرأ ، سواء أكانوا من العلماء المتعمِّقين أو السطحيين ، قالوا : المعنى إذا قرأ رسولُ الله القرآنَ تدخّل الشيطان في القراءة ، حتى يُدخِل فيها ما ليس منها . وذكروا دليلاً على ذلك في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [ النجم : 19 - 20 ] ثم أضافوا : والغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى . وكأن الشيطان أدخل في القرآن هذا الكلام ، ثم نسخه الله بعد ذلك ، وأحكم الله آياته . لكن هذا القول يُشكِّك في قضية القرآن ، وكيف نقول به بعد أن قال تعالى في القرآن : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] . وقال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] . إذن : الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلامه من أمثال هذا العبث ، وكيف نُدخِل في القرآن هذه الكفريات ؟ وكيف تستقيم عبارتهم : والغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى مع قول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [ النجم : 19 - 22 ] كيف ينسجم هذا وذاك ؟ فهذا الفهم في تفسير الآية لا يستقيم ، ولا يمكن للشيطان أنْ يُدخِل في القرآن ما ليس منه ، لكن يحتمل تدخُّل الشيطان على وجه آخر : فحين يقرأ رسول الله القرآن ، وفيه هداية للناس ، وفيه مواعظ وأحكام ومعجزات ، أتنتظر من عدو الله أنْ يُخلِي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلام دون أنْ يُشوِّش عليهم ، ويُبلبل أفكارهم ، ويَحُول بينهم وبين سماعه ؟ فإذا تمنّى الرسول يعني : قرأ ألقى الشيطان في أُمنيته ، وسلَّط أتباعه من البشر يقولون في القرآن : سِحْر وشِعْر وإفْك وأساطير الأولين : فدَوْر الشيطان - إذن - لا أنْ يُدخِلَ في كلام الله ما ليس منه ، فهذا أمر لا يقدر عليه ولا يُمكِّنه الله من كتابه أبداً ، إنما يمكن أنْ يُلقِي في طريق القرآن وفَهْمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصدُّ الناس عن فَهْمه والتأثر به ، وتُفسِد القرآن في نظر مَنْ يريد أن يؤمن به . لكن ، هل محاولة تشويه القرآن هذه وصَدّ الناس عنه جاءت بنتيجة ، وصرفتْ الناس فعلاَ عن كتاب الله ؟ لقد خيَّبَ الله سَعيْه ، ولم تقف محاولاته عقبة في سبيل الإيمان بالقرآن والتأثر به لأن القرآن وجد قلوباً وآذاناً استمعتْ وتأملتْ فآمنتْ وانهارتْ لجلاله وعظمته وخضعتْ لأسلوبه وبلاغته ، فآمنوا به واحداً بعد الآخر . ثم يقول تعالى : { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] يعني : ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الأباطيل والعقبات التي أراد بها أنْ يصدَّ الناس عن القرآن ، وأحكمَ اللهُ آياته ، وأوضح أنها منه سبحانه ، وأنه كلام الله المعْجز الذي لو اجتمعتْ الإنس والجنُّ على أنْ يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . هذا على قول مَنِ اعتبر أن { تَمَنَّى } [ الحج : 52 ] بمعنى : قرأ . أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه ، فنقول : الرسول الذي أرسله الله تعالى بمنهج الحق إلى الخَلْق ، فإنْ كان قادراً على تطبيق المنهج في نفسه فإنَّ أُمنيته أنْ يُصدَّق وأنْ يُطاع فيما جاء به ، أمنيته أنْ يسود َمنهجه ويُسيطر ويسُوس به حركة الحياة في الناس . والنبي أو الرسول هو أَوْلى الناس بقومه ، وهو أحرصهم على نَفْعهم وهدايتهم ، والقرآن خير يحب للناس أن يأخذوا به عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . لكن ، هل يترك الشيطان لرسول الله أنْ تتحقق أُمنيته في قومه أَمْ يضع في طريقه العقبات ، ويُحرِّك ضده النفوس ، فيتمرّد عليه قومه حيث يُذكِّرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة سيفقدونها بالإسلام ؟ وهكذا يُلْقِي الشيطان في أُمنيّة الرسول { إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] وما كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم ، أليس هو صاحب فكرة : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ … } [ فصلت : 26 ] . إن الشيطان لو لم يُلْق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويُشكّك فيه لآمن به كل مَنْ سمعه لأن للقرآن حلاوةً لا تُقَاوم ، وأثراً ينفذ إلى القلوب مباشرة . ومع ذلك لم يَفُتّ ما ألقى الشيطان في عَضُد القرآن ، ولا في عَضُد الدعوة ، فأخذت تزداد يوماً بعد يوم ، ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن المصدِّقين به ، المهم أن نتنبه : كيف نستقبل القرآن ، وكيف نتلقاه ، لا بد أن نستقبله استقبالَ الخالي من هوى ، فالذي يفسد الأحكام أنْ تُستقبل وتدخل على هوى سابق . وسبق أن قلنا : إن الحيز الواحد لا يسع شيئين في وقت واحد ، لا بُدَّ أنْ تُخرِج أحدهما لتُدخِل الآخر ، فعليك - إذن - أنْ تُخلِي عقلك وفكرك تماماً ، ثم تستقبل كلام الله ، وابحث فيه كما شئت ، فسوف تنتهي إلى الإيمان به شريطة أنْ تُصفِّي له قلبك ، فلا تُبق في ذِهْنِك ما يُعكِّر صَفْو الفطرة التي خلقها الله فيك ، عندها سيأخذ القرآن طريقه إلى قلبك ، فإذا أُشْرِب قلبُك حُبَّ القرآن ، فلا يزحزحه بعد ذلك شيء . ولنا في إسلام سيدنا عمر مثالٌ وعِظَة ، فلما سمع القرآن من أخته لأول مرة ، وقد أغلق قلبه على كفره لم يتأثر به ، وضربها حتى أَدْمى وجهها ، وعندها رَقَّ قلبه ، وتحركت عاطفته نحو أخته ، وكأن عاطفة الحب زحزحتْ عاطفة العداوة ، وكشفت عن صفاء طَبْعه ، فلما سمع القرآن بعدها آمن به على الفور . كذلك ، إنْ أردت أنْ تناقشَ قضية الإيمان أو الكفر ، وأنْ تختار بينهما لأنهما يجتمعان أبداً ، ولا بُدَّ أنْ تختار ، فحين تناقش هذه القضية وأنت مُصِرٌّ على الكفر فلن تصل إلى الإيمان لأن الله يطبع على القلب المُصِرَّ فلا يخرج منه الكفر ، ولا يدخله الإيمان ، إنما أخرِجْ الكفر أولاً وتحرّر من أَسْره ، ثم ناقش المسائل كما تحب . كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ … } [ سبأ : 46 ] . أما أنْ تناقش قضية ، وفي ذهْنك فكرة مُسبقة ، فأنت كهؤلاء الذين قال الله فيهم : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] يعني : ما الجديد الذي جاء به ، وما المعجزة في هذا الكلام ؟ فيأتي الرد : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ * وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 16 - 17 ] . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه عن القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى … } [ فصلت : 44 ] . فالقرآن واحد ، لكن المستقبل مختلف ، وقد ذكرنا أنك حين تريد أن تبرد كوب الشاي الساخن فإنك تنفخ فيه ، وكذلك إنْ أردتَ أنْ تُدفِئ يديك في برد الشتاء فإنك أيضاً تنفخ فيها ، كيف - إذن - والفاعل واحد ؟ نعم ، الفاعل واحد ، لكن المستقبل للفعل مختلف . وقوله تعالى : { مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } [ الحج : 52 ] . من هنا للدلالة على العموم وشمول كل الأنبياء والرسل السابقين ، فكل نبي أو رسول يتمنى يعني : يودّ ويحب ويرغب أن ينتشر دينه ويُطبِّق منهجه ، ويؤمن به جميع قومه ، لكن هيهات أنْ يتركه الشيطان وما أحبَّ ، بل لا بُدَّ أنْ يقف له بطريق دعوته ليصدَّ الناس عنه ويصرفهم عن دعوته ومنهجه ، لكن في النهاية ينصر الله رسُله وأنبياءه ، وينسخ عقبات الشيطان التي ألقاها في طريق الدعوة ، ثم يُحكِم الله آياته ، ويؤكدها ويظهرها ، فتصير مُحْكَمة لا ينكرها أحد . وساعةَ تسمع كلمة { أَلْقَى } [ الحج : 52 ] فاعلم أن بعدها عقبات وشروراً ، كما يقول تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ المائدة : 64 ] . ومما قاله أصحاب الرأي الأول في تفسير { تَمَنَّى } [ الحج : 52 ] وأنها بمعنى قرأ : يقولون : إن الله تعالى يُنزِل على رسوله صلى الله عليه وسلم أشياء تُثبت بشريته ، ثم يمحو الله آثار هذه البشرية ليبين أن الله صنعه على عينه ، حتى إنْ همَّتْ بشريته بشيء يعصمه الله منها . لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " يَرِدُ عليَّ فأقول : أنا لست كأحدكم ، ويُؤخذ مِنِّي فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " . إذن : فالرسول بشر إلا أنه يوحى إليه ما يعصمه من زلاَّت البشر . ومن بشريته صلى الله عليه وسلم أنه تعرّض للسحر ، وهذه واقعة لا تُنكر ، وقد ورد فيها أحاديث صحيحة ، وقد كاد الكفار لرسول الله بكل أنواع الكيد : استهزاءً ، وسباباً ، واضطهاداً ، وإهانة ، ثم تآمروا عليه بليل ليقتلوه ، وبيَّتوا له ، فلم يفلحوا قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30 ] . وكاد الله لرسوله وأخرجه من بينهم سالماً ، وهكذا فضح الله تبييتهم وخيّب سَعْيهم ، وفشلَتْ محاولاتهم الجهرية والسرية فلجئوا إلى السحرة ليفعلوا برسول الله ما عجزوا هم عنه ، وعملوا لرسول الله سحراً في مُشْطٍ ومُشَاطة من شعره صلى الله عليه وسلم وطلع نخلة ذكر ففضحهم الله ، وأخبر رسوله بذلك فأرسل الإمام علياً فأتى به من بئر ذروان . وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُبيِّن لنا بشرية الرسول ، وأنه يجري عليه ما يجري على البشر ، لكن ربه لا يترك بشريته وحدها ، وإنما يعصمه بقيوميته . وهذا المعنى هو ما قصده أصحاب الرأي الأول : أن الرسول يطرأ عليه ما يطرأ على البشر العادي ، لكن تتدخّل السماء لتعصمه ونحن نختار الرأي الآخر الذي يقول أن تمنى بمعنى ودَّ وأحب . ثم تختتم الآية بقوله تعالى : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] عليم بكيد الشيطان ، وتدبيره ، حكيم في علاج هذا الكيد .