Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 60-60)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ذٰلِكَ } يعني : هذا الأمر الذي تحدثنا فيه قد استقر ، وإليك هذا الكلام الجديد { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ … } [ الحج : 60 ] . الحق - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلافته في الأرض بحركات متوازنة ، فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة ، هذه العواطف لا يحكمها قانون . وخلق لنا أيضاً غرائز ولها مهمة ، لكن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق ، فإياك أنْ تتعدى بغريزتك إلى غير المهمة التي خلقها الله لها . فمثلاً ، غريزة حب الطعام جعلها الله فيك لاستبقاء الحياة ، فلا تجعلها غرضاً أصيلاً لذاتها ، فتأكل لمجرد أنْ تلتذَّ بالأكل لأنها لذة وقتية تعقبها آلام ومتاعب طويلة . وهذه الغريزة جعلها الله في النفس البشرية منضبطة تماماً كما تضبط المنبّة مثلاً ، فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطعام وطلبته ، وإنْ عطشتْ مالتْ نفسك نحو الماء ، وكأن بداخلك جرساً يُنبِّهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مُقوِّمات استبقائها . حب الاستطلاع غريزة جعلها الله فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة الله وعظمته ، فلا تتعدى هذا الغرض ، ولا تحرِّك هذه الغريزة إلى التجسُّس على الخَلْق والوقوف على أسرارهم . التناسل غريزة جعلها الله لحِفْظ النوع ، فلا ينبغي أنْ تتعدى ما جعلت له إلى ما حرَّم الله . الغضب غريزة وانفعال قَسْري لا تختاره بعقلك تغضب أو لا تغضب ، إنما إنْ تعرضتَ لأسبابه فلا تملك إلا أنْ تغضب ، ومع ذلك جعل له حدوداً وقنَّن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع . الحب والكُرْه غريزة وعاطفة لا تخضع لقانون ، ولا يحكمها العقل ، فلك أن تحب وأن تكره ، لكن إياك أنْ تتعدَّى هذه العاطفة إلى عمل عقليٍّ ونزوع تعتدي به أو تظلم . لذلك يقول تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ … } [ المائدة : 8 ] . لأن هذه المسألة لا يحكمها قانون ، وليس بيدك الحب أو الكره لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل أخيه قال له عمر : أَدِرْ وجهك عني فإنِّي لا أحبك . وكان الرجل عاقلاً فقال لسيدنا عمر : أَوَ عَدمُ حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي ؟ قال عمر : لا ، فقال الرجل : إنما يبكي على الحب النساء . يعني أحِبّ أو اكره كما شِئْتَ ، لكن لا تتعدَّ ولا تحرمني حقاً من حقوقي . فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها ؟ لو تأملتَ مثلاً الغريزة الجنسية التي يصِفُها البعض بِمْلء فيه يقول : غريزة بهيمية … سبحان الله أَلاَ تستحي أنْ تظلم البهائم لمجرد أنها لا تتكلّم ، وهي أفهم لهذه الغريزة منك ، أَلاَ تراها بمجرد أن يُخصِّب الذكَر أُنثاه لا يقربها أبداً ، وهي لا تمكِّنه من نفسها إذا ما حملَتْ ، في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة ، وتنطلق فيها انطلاقاً يُخرِجها عن هدفها والحكمة منها ؟ على مثل هذا أن يخزى أن يقول مثل هذه المقولة ، وألاَّ يظلم البهائم ، فمن الناس مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير . وما يقال عن غريزة الجنس في الحيوان يقال كذلك في الطعام والشراب . إذن : الخالق سبحانه خلق الغرائز فيك ، ولم يكبتها ، وجعل لها منافذ شرعية لتؤدي مهمتها في حياتك لذلك أحاطها بسياج من التكليف يُنظِّمها ويحكمها حتى لا تشرد بك ، فقال مثلاً في غريزة الطعام والشراب : { يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ … } [ الأعراف : 31 ] . وقال في غريزة حب الاستطلاع : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ … } [ الحجرات : 12 ] وهكذا في كل غرائزك تجد لها حدوداً يجب عليك ألاَّ تتعداها . لذلك قلنا في صفات الإيمان وفي صفات الكفر أن الله تعالى يصف المؤمنين بأنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] لأنهم يضعون كل غريزة في موضعها فالشدة مع الأعداء ، والرحمة مع إخوانهم المؤمنين ، ويقف عند هذه الحدود لا يقلب مقاييسها ، ويلتزم بقول الحق سبحانه وتعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] . وكأن الخالق عز وجل يُسوِّينا تسوية إيمانية ، فالمؤمن لم يُخلَق عزيزاً ولا ذليلاً ، إنما الموقف هو الذي يضعه في مكانه المناسب ، فهو عزيز شامخ مع الكفار ، وذليل مُنكسِر متواضع مع المؤمنين . ويتفرع عن هذه المسألة مسألة ردِّ العقوبة إذا اعتُدِي عليك : { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ … } [ الحج : 60 ] . الحق - سبحانه وتعالى - هو خالق النفس البشرية ، وهو أعلم بنوازعها وخَلَجاتها لذلك أباح لك إن اعتدى عليك أنْ تردَّ الاعتداء بمثله ، حتى لا يختمر الغضب في نفسك ، وقد ينتج عنه ما هو أشد وأبلغ في ردِّ العقوبة ، يبيح لك الرد بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحد ولا تتفاقم ، فمَنْ ضربك ضربة فلك أنْ تُنفِّس عن نفسك وتضربه مثلها ، لك ذلك ، لكن تذكرَّ المثلية هنا ، لا بد أن تكون تامة ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } [ النحل : 126 ] . وهل تستطيع أن تضبط هذه المثلية فتردّ الضربة بمثلها ؟ وهل قوتك كقوته ، وحِدَّة انفعالك في الرد كحِدَّة انفعاله ؟ ولو حدث وزدْتَ في ردِّك نتيجة غضب ، ماذا تفعل ؟ أتسمح له أنْ يردَّ عليك هذه الزيادة ؟ أم تكون أنت ظالماً معتدياً ؟ إذن : ماذا يُلجئك لمثل هذه المتاهة ، ولك في التسامح سِعَة ، وفي قول الله بعدها : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] مَخْرج من هذا الضيق ؟ وسبق أنْ حكينا قصة المرابي اليهودي الذي قال لطالب الدَّيْن : إن تأخرت في السداد أشترط عليك أنْ آخذ رطلاً من لحمك . وجاء وقت السداد ولم يُوف المدين ، فرفعه الدائن إلى القاضي وأخبره بما اشترطه عليه ، فقال القاضي : نعم من حقك أن تأخذ رطلاً من لحمه لكن بضربة واحدة بالسكين تأخذ رطلاً ، إنْ زاد أو نقص أخذناه منك . إذن : مسألة المثلية هنا عقبةٌ تحدُّ من ثورة الغضب ، وتفتح باباً للارتقاءات الإيمانية ، فإنْ كان الحق سبحانه سمح لك أن تُنفِّس عن نفسك فقال : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا … } [ الشورى : 40 ] فإنه يقول لك : لا تنسَ العفو والتسامح { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . لذلك ، فالآية التي معنا تلفتنا لَفْتةً إيمانية : { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ … } [ الحج : 60 ] واحدة بواحدة { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ … } [ الحج : 60 ] يعني : زاده بعد أنْ ردَّ العدوان بمثله وظلمه واعتدى عليه { لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ … } [ الحج : 60 ] ينصره على المعتدي الذي لم يرتَض حكم الله في رَدِّ العقوبة بمثلها . وتلحظ في قوله تعالى مخايل النصر بقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ الحج : 60 ] مع أن الصفة التي تناسب النُّصْرة أن يقول قوي عزيز لأن النُّصْرة تحتاج قوة وتحتاج عزة ، لكنه سبحانه اختار صفة العفو والمغفرة ليلفت نظر مَنْ أراد أنْ يعاقب إلى هذه الارتقاءات الإيمانية : اغفر وارحم واعْفُ لأن ربك عفو غفور ، فاختار الصفة التي تُحنِّن قلب المؤمن على أخيه المؤمن . ثم أليس لك ذنب مع الله ؟ { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ … } [ النور : 22 ] فما دُمْت تحب أن يغفر الله لك فاغفر لعباده ، وحين تغفر لمَنْ يستحق العقوبة تأتي النتيجة كما قال ربك عز وجل : { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] . فالحق سبحانه يريد أن يشيع بيننا الصفاء النفسي والتلاحم الإيماني ، فأعطاك حقَّ رَدِّ العقوبة بمثلها لتنفِّس عن نفسك الغيظ ، ثم دعاك إلى العفو والمغفرة . ثم يقول الحق سبحانه : { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ … } .