Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 63-63)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَلَمْ تَرَ … } [ الحج : 63 ] إنْ كانت للأمر الحِسِّي الذي تراه العين ، فأنت لم تَرَهُ ونُنبهك إليه ، وإنْ كانت للأمر الذي لا يُدرَك بالعين فهي بمعنى : ألم تعلم . وتركنا العلم إلى الرؤية لنبين لك أن الذي يُعلِّمك الله به أوثق مما تهديك إليه عَيْنك . فالمعنى : ألم تعلم وألم تنظر ؟ . المعنيان معاً . { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً … } [ الحج : 63 ] فهذه آية تراها ، لكن ترى منها الظاهر فقط ، فترى الماء ينهمر من السماء ، إنما كيف تكوَّن هذا الماء في طبقات الجو ؟ ولماذا نزل في هذا المكان بالذات ؟ هذه عمليات لم تَرَها ، وقدرة الله تعالى واسعة ، ولك أن تتأمل لو أردتَ أنْ تجمع كوب ماء واحد من ماء البخار ، وكم يأخذ منك من جهد ووقت وعمليات تسخين وتبخير وتكثيف ، فهل رأيتَ هذه العمليات في تكوين المطر ؟ إذن : رأيت من المطر ظاهره ، لذلك يلفتك ربك إلى ما وراء هذا الظاهر لتتأمله . لذلك جعل الخالق - عز وجل - مسطح الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، فاتساع مُسطَّح الماء يزيد من البَخْر الذي ينشره الله تعالى على اليابس ، كما لو وضعتَ مثلاً كوبَ ماء في غرفتك ، وتركتَه مدة شهر أو شهرين ، ستجد أنه ينقص مثلاً سنتيمتراً ، أما لو نثرتَ الكوب على أرض الغرفة فسوف يجفّ بعد دقائق . إذن : فاتساع رقعة الماء يزيد من كمية البخار المتصاعد منها ، ونحن على اليابس نحتاج كمية كبيرة من الماء العَذْب الصالح للزراعة وللشرب … الخ ، ولا يتوفر هذا إلا بكثرة كمية الأمطار . ثم يُبيِّن سبحانه نتيجة إنزال الماء من السماء : { فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً … } [ الحج : 63 ] يعني : تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية . دون أن يذكر شيئاً عن تدخُّل الإنسان في هذه العملية ، فالإنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يَرْو ، إنما المسألة كلها بقدرة الله ، لكن من أين أتت البذور التي كوَّنَتْ هذا النبات ؟ ومَنْ بذرها ووزَّعها ؟ البذُور كانت موجودة في التربة حيَّة كامنة لم يُصِبْها شيء ، وإنْ مَرَّ عليها الزمن لأن الله تعالى يحفظها إلى أنْ تجد الماء وتتوفَّر لها عوامل الإنبات فتنبت لذلك نُسمِّي هذا النبات العِذْى لأنه خرج بقدرة الله لا دَخْل لأحد فيه . وتولَّتْ الرياح نَقْل هذه البذور من مكان لآخر ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ … } [ الحجر : 22 ] ولو سلسلْتَ هذه البذرة ستجدها من شجرة إلى شجرة حتى تصل إلى شجرة أُمٍّ ، خلقها الخالق سبحانه لا شجرةَ قبلها ولا بذرة . لذلك يُرْوى أن يوسف النجار وكان يرعى السيدة مريم عليها السلام ويشرف عليها ، ويقال كان خطيبها - لما رآها حاملاً وليس لها زوج سألها بأدب : يا مريم ، أتوجد شجرة بلا بذرة ؟ قالت : نعم الشجرة التي أنبتتْ أول بذرة . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] اللطْف هو دِقَّة التناول للأشياء ، فمثلاً حين تريد أن تدخل خيطاً في إبرة ، تجد الخيط لا ينفذ من ثقبها لأول مرة ، فتحاول أنْ تُرفِّق من طرف الخيط وتبرمه حتى يدِقّ فينفذ من الثقب ، فالخيط بعد أنْ كان غليظاً أصبح لطيفاً دقيقاً . ويقولون : الشيء كلما لَطُف عَنُف ، في حين يظن البعض أن الشيء الكبير هو القوي ، لكن هذا غير صحيح ، فكلما كان الشيء لطيفاً دقيقاً كان خطره أعظم ، أَلاَ ترى الميكروب كيف يصيب الإنسان وكيف لا نشعر به ولا نجد له ألماً ؟ ذلك لأنه دقيق لطيف ، وكذلك له مدخل لطيف لا تشعر به لأنه من الصِّغَر بحيث لا تراه بالعين المجردة . والبعوضة كم هي هيِّنة صغيرة لذلك تُؤلمك لدغتها بخرطومها الدقيق الذي لا تكاد تراه ، وكلما دَقَّ الشيء احتاج إلى احتياط أكثر لتحمي نفسك من خطره ، فمثلاً إنْ أردتَ بناء بيت في الخلاء أو منطقة نائية ، فإنك ستضطر أنْ تضع حديداً على الشبابيك يحميك من الحيوانات المفترسة كالذئاب مثلاً ، ثم تضع شبكة من السلك لتحميك من الفئران ، فإن أردْتَ أن تحمي نفسك من الذباب والبعوض احتجت إلى سِلْك أدق ، وهكذا كلما صَغُر الشيء ولطف احتاج إلى احتياط أكثر . فاللطيف هو الذي يدخل في الأشياء بلطف لذلك يقولون : فلان لطيف المدخل يعني : يعني : يدخل لكل إنسان بما يناسبه ، ويعرف لكل إنسان نقطة ضَعْف يدخل إليه منها ، كأن معه طفاشة للرجال ، يستطيع أن يفتح بها أي شخصية . لكن ، ما علاقة قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] بعد قوله : { فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً … } [ الحج : 63 ] ؟ قالوا : لأن عملية الإنبات تقوم على مَسَامّ وشعيرات دقيقة تخرج من البذرة بعد الإنبات ، وتمتصّ الغذاء من التربة ، هذه الشعيرات الجذرية تحتاج إلى لُطْف ، وامتصاص الغذاء المناسب لكل نوع يحتاج إلى خبرة ، كما قال تعالى : { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ … } [ الرعد : 4 ] . فالأرض تصبح مُخضَرَّة من لُطْف الحق سبحانه ، ومن خبرته في مداخل الأشياء ، لذلك قال بعدها : { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] . ولدِقّة الشعيرات الجذرية نحرص ألاَّ تعلو المياه الجوفية في التربة لأنها تفسد هذه الشعيرات فتتعطن وتموت فيصفرُّ النبات ويموت . ثم يقول الحق سبحانه : { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّ ٱللَّهَ … } .