Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 11-11)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذن : الحق سبحانه ورَّثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الآخرة ، والفردوس أعلى الجنة ، فورث الحق لينفع عباده ويُصعِّد النفع لهم ، ففي الدنيا كنا ننتفع بالأسباب ، وفي الآخرة ننتفع بغير أسباب ، الحق ورث ليعطي ، لا مِثْل ما أخذ إنما فوق ما أخذ لأننا نأخذ في الميراث ما يفنى ، ولله تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى . لكن مِمَّنْ يرثون الفردوس ؟ قالوا : الحق - تبارك وتعالى - عندما خلق الخَلْق ، وجعل فيهم الاختيار بين الإيمان والكفر ، وبين الطاعة والمعصية رتَّبَ على ذلك أموراً ، فجعل الجنة على فرض أن الخَلْق كلهم مؤمنون ، بحيث لو دخلوا الجنة جميعاً ما كانت هناك أزمة أماكن ولا زحام ، وكذلك جعل النار على فرض أن الخَلْق كلهم كافرون ، فلو كفر الناس جميعاً لكان لكل منهم مكانه في النار . وعليه فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ يتركون أماكنهم في النار ، وحين يدخل أهل النارِ النارَ يتركّون أماكنهم في الجنة ، فيرث أهل النار الأماكن الشاغرة فيها ، ويرث أهل الجنة الأماكن الشاغرة فيها . والفردوس أعلى مكان في الجنة ، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة " ذلك لأن الفردوس جنة على أعلى رَبْوة في الجنة . يعني : في مكان مُميّز منها ، والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا ، الناس يُحبون السُّكْنى في الأماكن العالية ، حيث نقاء الهواء ونقاء الماء ، أَلاَ تراهم يزرعون في المرتفعات ، وإنْ كانت الأرض مستوية يجعلون فيها مصارف منخفضة تمتصُّ الماء الزائد الذي يفسد الزرع لذلك يقول سبحانه : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } [ البقرة : 265 ] . كذلك الأرض المرتفعة لا تُسْقَى بالماء الغمر ، إنما تُسْقَى من ماء السماء الذي يغسل الأوراق قبل أن يروي الجذور ، فيكون النبات على أفضل ما يكون لذلك يقول عنها رب العزة : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } [ البقرة : 265 ] . ومعلوم أن الأوراق هي رئة النبات ، وعليها تقوم عملية التمثيل الضوئي التي يصنع منها النبات غذاءه ، فإذا ما سُدَّت مسام الأوراق وتراكم عليها الغبار فإن ذلك يُقلِّل من قدرة النبات على التنفس ، مثل الإنسان حينما يُصَاب بشيء في رئته تزعجه وتُقلِّل من كفاءته . وفي الفردوس ميزة أخرى هي أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي غرس شجرها بيده ، كما كرَّم آدم عليه السلام فخلقه بيده تعالى ، فقال : { يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ … } [ ص : 75 ] . ويُروى أن الحق - تبارك وتعالى - لما خلق الفردوس ، وغرس أشجارها بيده قال للفردوس : تكلمي ، فلما تكلمت الفردوس قالت : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] . ثم يقول تعالى : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 11 ] لأن نعيم الجنة باقٍ ودائم لا ينقطع ، وقد عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أُوتِي الإنسان منه ، فإنه منقطع زائل ، إما أنْ يتركك بالفقر والحاجة ، وإما أنْ تتركه أنت بالموت ، لذلك يقول تعالى في نعيم الآخرة : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] . وهكذا نلحظ على استهلال هذه السورة أن الحق سبحانه بدأ بالكلام عن الفلاح في الآخرة كأنه قدَّم ثمرة الإيمان أولاً ، ووضع الجزاء بداية بين يديك كأنه سبحانه يقول لك : هذا جزاء مَنْ آمن بي واتبع منهجي . كما جاء في قوله تعالى في استهلال سورة الرحمن : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] كيف وقد خلق الله الإنسان أولاً ، ثم علَّمه القرآن ؟ قالوا : لأن الذي يصنع صنعة يضع لها قانونها ، ويُحدِّد لها مهمتها أولاً قبل أن يشرع في صناعتها ، فمثلاً - ولله المثل الأعلى - الذي يصنع الثلاجة ، قبل أن يصنعها حدد عملها ومهمتها وقانون صيانتها والغاية منها . والقرآن هو منهج الإنسان ، وقانون صيانته في حركة الحياة لذلك خلق الله المنهج ووضع قانون الصيانة قبل أن يخلق الإنسان .