Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 67-67)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مادة : كبر تأتي بكسر الباء للدلالة على العمر تقول : كَبِر فلان . يعني : كان صغيراً ثم كبر ، وبضم الباء للشيء المعنوي وللقيم ، كما في قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ … } [ الكهف : 5 ] يعني : عظمت . ومعنى الاستكبار افتعال الكِبر وطلبه ، مثل : استفهم يعني : طلب الفَهْم ، في حين هو ليس كبيراً في ذاته ، فهو محتاج إلى غيره . فالكبير في ذاته مَنْ تكون عنده وتتوفر له في ذاته مُقوِّمات الحياة وضرورياتها وترفها ، لا يستمدها من أحد . لكن الإنسان ضروريات حياته ، وأسباب ترفه موهوبة له من غيره ، فلا يصح له أنْ يتكبّر ، فمَنْ أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه من صحة أو مال أو سلطان … الخ ، وهذه كلها أمور موهوبة لك ، فالصحيح قد يصبح سقيماً ، والغني قد يصبح فقيراً . لذلك ، فالكبرياء لله تعالى وحده لأنه الواهب للغير ، والمتفضِّل على الخَلْق بما يمكن أنْ يتكبروا به ، ومن صفات جلاله وكماله سبحانه المتكبر لأنه سبحانه رب الخَلْق أجمعين ، ومن مصلحة الخلق أن يكون المتكبر هو الله وحده ، حتى لا يرفع أحد رأسه على خَلْقه ويتكّبر عليهم . وهكذا يحمي الحق سبحانه خَلْقه من خَلْقه ، فإنْ تكبّر عليك ربك ، وأجري عليك قدراً لأنك فعلت شيئاً وأنت واحد ، فاعلم أنه يتكبر على الآخرين جميعاً وهم كثيرون ، إنْ فعلوا بك هذا الشيء ، إذن : فصفة الكبرياء لله عز وجل في صالحك . ومثَّلْنا لذلك ، ولله المثل الأعلى : من مصلحة الأسرة ألاّ يكون لها إلا كبير واحد يُرجَع إليه ، ومن أقوال العامة اللي ملوش كبير يشتري له كبير لأنه الميزان الذي تستقيم به الأمور ويُسيِّر دفّة الحياة . وقلنا : إن من أسمائه تعالى الكبير ولا نقول : الأكبر مع أنها صيغة مبالغة ، لماذا ؟ لأن أكبر صيغة مبالغة عندنا نحن البشر ، نقول : هذا كبير وذاك أكبر ، وهذا قويٌّ وذاك أقوَى ، ولا يقال هذا في صفته تعالى لأنك لو قُلْت : الله أكبر لكان المعنى أنك شرَكت معه غيره ، فهو سبحانه أكبر وغيره كبير ، لذلك لا تُقال : الله أكبر إلا في النداء للصلاة . إذن : المستكبر : الذي يطلب مؤهلات كبْر وليس لذاتيته شيء من هذه المؤهلات ، والإنسان لا ينبغي له أن يتكبر إلا إذا ملك ذاتيات كبره ، والمخلوق لا يملك شيئاً من ذلك . ومعنى { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ … } [ المؤمنون : 67 ] الهاء في به ضمير مُبْهم ، يُعرَّف بمرجعه ، كما تقول : جاءني رجل فأكرمته ، فالذي أزال إبهام الهاء مرجعه إلى رجل . وفي الآية لم يتقدم اسم يعود عليه الضمير ، لكن الكلام هنا عن الرسول الذي أُرسل إليهم ، والقرآن الذي أُنزل عليهم معجزة ومنهاجاً ، إذن : لا يعود الضمير إلا إلى واحد منهما . أو : أن الضمير في به يعود إلى بيت الله الحرام ، وقد كان سبباً لمكانة قريش ومنزلتهم بين العرب ، وأعطاهم وَضْعاً من السيادة والشرف ، فكانوا يسيرون في رحلات التجارة إلى اليمن وإلى الشام دون أن يتعرض لهم أحد ، في وقت انتشر فيه بين القبائل السَّلْب والنهب والغارة وقطع الطريق . وما كانت هذه المنزلة لتكون لهم لولا بيت الله الحرام الذي يحجُّه العرب كل عام ، وخدمته وسدانته في أيدي قريش لذلك استكبروا به على الأمة كلها ، ليس هذا فقط ، إنما تجرأوا أيضاً على البيت . ويقول تعالى بعدها : { سَامِراً تَهْجُرُونَ } [ المؤمنون : 67 ] السامر : الجماعة يسْمُرون ليلاً ، وكانوا يجتمعون حول بيت الله ليلاً يتحدثون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، يشتمونه ويخوضون في حقه ، وفي حق القرآن الذي نزل عليه . وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهُجر ، والهُجْر هو فُحْش الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم وفي القرآن . فأمر هؤلاء عجيب : كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت الله الذي جعل لهم السيادة والمنزلة ؟ كيف يخوضون في رسول الله الذي جاء ليطهر هذا البيت من الأصنام ورجسها ؟ إنه سوء أدب مع الله ، ومع رسوله ، ومع القرآن ، يصدق فيه قول الشاعر : @ أُعلِّمهُ الرمايةَ كُلَّ يوْمٍ فَلَمّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي وكَمْ علَّمتُه نَظْمَ القَوافِي فَلَمَّا قَالَ قَافِية هَجَانِي @@ لقد استكبر هؤلاء على الأمة كلها بالبيت ، ومع ذلك ما حفظوا حُرْمته ، وجعلوه مكاناً للسَّمَر وللهُجْر وللسَّفَه وللطيْش ، ولكل مَا لا يليق به ، فالقرآن عندهم أساطير الأولين ، ومحمد عندهم ساحر وكاهن وَشاعر ومجنون … وهكذا . والحق - سبحانه وتعالى - يُنبِّهكم إلى أن ضروريات حياتكم هِبةٌ منه سبحانه وتفضُّل ، فحينما جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق ، وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة ، ولم يكن لكم طاقة لردِّه ولا قدرةَ على حماية البيت ، فلو هدمه لضاعتْ هيبتكم وسيادتكم بين القبائل ، ولتجرأوا عليكم كما تجرأوا على غيركم ، لكن حمى الله بيته ، ودافع عن حرماته ، حتى إن الفيل نفسه وعى هذا الدرس ، ووقف مكانه لا يتحرك نحو البيت خاصة ، ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير . ويُرْوَى أن أحدهم قال للفيل يخاطبه : ابْرك محمود وارجع راشداً - يعني : انفد بجلدك لأنك في بلد الله الحرام ، وكما قال الشاعر : @ حُبِسَ الفِيلُ بالمغَمَّس حَتَّى صَارَ يحبُو كَأنَّهُ مَعْقُورُ @@ وهكذا ردّهم الله مقهورين مدحورين ، وحفظ لكم البيت ، وأبقى لكم السيادة . لذلك لاحظ الانتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش ، يقول تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ الفيل : 1 - 5 ] يعني : مثل التبن والفُتَات الذي تذروه الرياح . ثم يقول في أول قريش : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] يعني ما حَلَّ بأصحاب الفيل ، فاللام في لإِيلاَف لام التعليل ، يعني : حَلَّ ما حَلَّ بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء والصيف { إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } [ قريش : 2 ] وما دام أن الله تعالى قد حماكم وحمى لكم البيت ، وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أنْ تعبدوه وحده لا شريك له { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ … } .