Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 68-69)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في هذه الآية والآيات بعدها يريد - سبحانه وتعالى - أن يُوبّخهم بعدة أمور واحد بعد واحد بعد الآخر . أولها : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ … } [ المؤمنون : 68 ] فالاستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع : ماذا جرى لهؤلاء ؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن ، وهم أمة الفصاحة والبلاغة والبيان ، وأمة القول بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلَّقوه على الجدار ؟ لذلك لا يُعقل ألاَّ تفهموا القرآن ، وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلاغة والفصاحة ، لا بُدَّ أنكم فهمتموه ووعيْتُم ما فيه ، بدليل قولكم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . وهكذا الكذاب يسرقه طبعه ، وينمّ منطقه عما في ضميره ، فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على محمد لأنه فقير من أوسط القوم ، فالمسألة - إذن - منازعة سيادة وسلطة زمنية ، لكن ألم يَدْرِ هؤلاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء ليسلبهم سلطتهم ، أو يعلو هو عليهم ، إنما جاء ليحكمهم بمنهج الله ، ويتحمل هو الأذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم ؟ لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ الحكم ويحمل منهج الله تكليفاً لا تشريفاً ، بدليل أنه عاش في مستوى أقلّ منكم ، فلا ترى رسول الله إلا أقلهم طعاماً وأقلهم شراباً ، أقلهم لباساً وأثاثاً ، حتى أقاربه كانوا فقراء ، ومع ذلك حرَّم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء ، كذلك يرث الناس وهم لا يرثون . وبعد ذلك كله تقولون : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يبدو أنكم ألِفْتم العبودية للعظماء وللجبابرة ، ألِفتم العبودية لغير الله ، وعَزَّ عليكم أن يحرركم الله من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم ، جاء ليصلحكم ويخرجكم من العبودية للمخلوق إلى العبودية للخالق عز وجل . ألم يقُلْ أحد رؤوس الكفر عن القرآن : " والله إن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعْلى عليه " . إذن : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ … } [ المؤمنون : 68 ] توبيخ ، لأنهم فهموا القرآن ، لكن حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه ، وأن ينال دونهم هذه المكانة ، كما قال سبحانه : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ … } [ النساء : 54 ] . الأمر الثاني : { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ } [ المؤمنون : 68 ] يعني : جاءهم أمر غريب لا عهدَ لهم به ، وهو أن يأتي رسول من عند الله ، وهذه المسألة معروفة لهم ، فمنهم إبراهيم عليه السلام ، ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما ، إذن : ليست مسألة عجيبة ، بل يعرفونها جيداً ، لكن ما منعهم في الأولى منعهم في هذه ، إنه الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك يقول تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ الزخرف : 87 ] . الأمر الثالث : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ المؤمنون : 69 ] . يعني : أنزَلَ عليهم رسولٌ من السماء لا يعرفون سيرته وخُلقه ونسبه ومسلكه قبل أنْ يُبعث ؟ إنهم يعرفونه جيداً ، وقبل بعثته سَمَّوْه " الصادق الأمين " وارتضَوْا حكومته بينهم في مسألة الحجر الأسود ، وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم ، ولم يجربوا عليه كذباً أوخيانة أو سَقْطة من سقطات الجاهلية . وقد شرحت هذه المسألة في قول الله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ التوبة : 128 ] يعني : من جنسكم ، ومن نوعكم ، ومن قبيلتكم ، ليس غريباً عنكم وهو معروف لكم : سلوكه وسيرته وخُلقه ، وإذا لم تُجرِّبوا عليه الكذب مع الخَلْق ، أتتصورون منه أنْ يكذب على الخالق ؟ وهل رسول الله في أول بعثته لَمَّا أخبر الناس أنه رسول الله جاء القرآن ليحمل الناس على الإيمان به ؟ لا ، إنما جاء ليتحدى مَنْ لم يؤمن ، أما مَنْ آمن بداية ، بمجرد أنْ قال محمد : أنا رسول الله قال : صدقت ، وأنه لم يكذب أبداً لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول الله ، فإنْ قال فالمسألة منتهية لأنه صادق لا يشكّ أحد منهم في صِدْقه . لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال أبو بكر في مسألة الإسراء والمعراج : إنْ كان قال فقد صدق ، يحملها رسول الله تقديراً لأبي بكر ويقول : " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسَيْ رهان " يعني : في الخُلُق الطيب والسلوك السَّويِّ " فسبقتُه للنبوة فاتبعني ، ولو سبقني هو لاتبعتُه " . " ولما نزل جبريل - عليه السلام - على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي فأجهده ، فذهب إلى السيدة خديجة - رضي الله عنها - وحكى لها ما حدث له كأنه يستفهم منها عَمَّا حدث ولم يخبرها أنه رسول من عند الله ، ومع ذلك أخذته إلى ورقة بن نوفل ، وكان على علم بالكتب السابقة ، فلما سمع ورقة بن نوفل ما حدث قال : إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى وليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أَوَمُخرجِيّ هم ؟ " قال : " ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عُودِي ، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً " . ومع ذلك يظل رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً قلقاً أن يكون هذا شيئاَ من الشيطان ، فتُطمئِنه السيدة خديجة ، فهذا لا يعقل مع رسول الله ، لذلك تقول له : " إنك لتصلُ الرحم ، وتُكسِب المعدوم ، وتحمل الكَلَّ ، وتعين على نوائب الدهر ، والله لن يخذلك الله أبداً " . ومن هنا اعتبروا السيدة خديجة أول مجتهدة في الإسلام لأنها اجتهدتْ واستنبطتْ من مقدمات رسول الله قبل البعثة دليلاً على صِدْقه بعد البعثة لذلك كانت أول مَنْ سُمِّيت بأم المؤمنين ، حتى قال بعض العارفين : خديجة أم المؤمنين بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه في هذه السِّن كان في حاجة إلى أم أكثر من حاجته إلى عروس صغيرة تُدلِّله ، وقد قامت خديجة - رضي الله عنها - فعلاً بدور الأم لرسول الله فاحتضنته ، وطمأنته ووقفت إلى جواره في أشدِّ الأوقات وأحرجها . كما نلحظ في الآية : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ … } [ المؤمنون : 69 ] فأضاف الرسول إليهم يعني : رسول لهم ، أما في الإضافة إلى الله تعالى : رسول الله ، فالمعنى رسول منه ، وهكذا يختلف المعنى باختلاف الإضافة .