Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 11-11)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الإفك : لدينا نِسَب ثلاث للأحداث : نسبة ذهنية ، ونسبة كلامية حين تتكلم ، ونسبة خارجية . فحين أقول : محمد مجتهد . هذه قضية ذهنية ، فإن نطقتَ بها فهي نسبة كلامية ، فهل هناك شخص اسمه محمد ومجتهد ، هذه نسبة خارجية ، فإنْ وافقت النسبةُ الكلامية النسبةَ الخارجية ، فالكلام صِدْق ، وإنْ خالفت فالكلام كذب . فالصدق أنْ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ ، والكذب أَلاَّ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ ، والكذب قد يكون غير مُتعمد ، وقد يكون مُتعمداً ، فإنْ كان مُتعمداً فهو الإفك ، وإن كان غير متعمد كأنْ أخبره شخص أن محمداً مجتهد وهو غير ذلك ، فالخبر كاذب ، لكن المخبر ليس كاذباً . فالإفك - إذن - تعمُّد الكذب ، ويعطي ضد الحكم ، كأن تقول : محمد مجتهد . وأنت تعلم أنه مهمل لذلك كان الإفكُ أفظعَ أنواع الكذب لأنه يقلب الحقائق ويختلق واقعاً مضاداً لما لم يحدث . يقول تعالى : { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } [ النجم : 53 ] وهي القُرَى التي جعل الله عاليها سافلها ، وكذلك الإفك يُغيِّر الواقع ، ويقلبه رَأْساً على عَقِب . والعصبة : الجماعة التي ترتبط حركتها لتحقيق غاية متحدة ، ومن ذلك نقول : عصابة مخدرات ، عصابة سرقات ، يعني : جماعة اتفقوا على تنفيذ حَدَث لغاية واحدة ، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف : { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ … } [ يوسف : 14 ] . وما دام أهلُ الإفْك عصبةً فلا بُدَّ أن لهم غاية واحدة في التشويه والتبشيع ، وكان رئيسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، وهو شيخ المنافقين ، ومعذور في أن يكون كذلك ، ففي اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أُبيٍّ تاجاً ليُنصِّبوه مَلِكاً على المدينة ، فلما فُوجِىء برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه . لذلك فهو القائل : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ … } [ المنافقون : 8 ] يقصد أنه الأعزُّ ، فردَّ عليه الحق - تبارك وتعالى - صدقت ، لكن العزة ستكون لله وللرسول وللمؤمنين ، وعليه فالخارج منها أنت . وهو أيضاً القائل : { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ … } [ المنافقون : 7 ] والعجيب أنه يعترف أن محمداً رسول الله ، ويقولها علانية ، ومع ذلك ينكرها بأعماله وتصرفاته ، ويحدث تشويشاً في الفكر وفي أداء العبارة . وما دام أن الحق سبحانه سمَّى هذه الحادثة في حَقِّ أم المؤمنين عائشة إفكاً فلا بُدَّ أنهم قَلَبوا الحقائق وقالوا ما يناقض الواقع . والقصة حدثت في غزوة بن المصطلق ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته : مَنْ تخرج منهن معه . وهذا ما تقتضيه عدالته صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه الغزوة أقرع بينهن فخرج السهم لعائشة فخرجتْ معه ، وبعد الغزوة وأثناء الاستعداد للعودة قالت السيدة عائشة : ذهبتُ لأقضي حاجتي في الخلاء ، ثم رجعت إلى هَوْدَجِي ألتمس عِقْداً لي من جَزْع ظَفَار وهو نوع نفيس . فلما عادت السيدة عائشة وجدت القوم قد ذهبوا ، ولم تجد هَوْدجها فقالت في نفسها لا بُدَّ أنهم سيفتقدونني وسيعودون . لكن كيف حمل القوم هودج عائشة ولم تكُنْ فيه ؟ قالوا : لأن النساء كُنَّ خِفَافاً لم يثقلن ، وكانت عائشة نحيفة ، لذلك حمل الرجال هَودْجها دون أن يشعروا أنها ليست بداخله . ثم نامت السيدة عائشة في موضع هودجها تنتظر مَنْ يأتيها ، وكان من عادة القوم أن يتأخر أحدهم بعد الرحيل ليتفقد المكان ويُعقب عليه ، عَلَّه يجد شيئاً نسيه القوم أو شخصاً تخلَّف عن الرَّكْب . وكان هذا المعقِّب هو صفوان بن المعطل ، فلما رأى شبحَ إنسان نائم فاقترب منه ، فإذا هي عائشة رضي الله عنها ، فأناخ ناقته بجوارها ، وأدار وجهه حتى ركبتْ وسار بها دون أن ينظر إليها وعَفَّ نفسه ، بدليل أن القرآن سمَّى ما قالوه إفْكاً يعني : مناقضاً للواقع ، فصفوان لم يفعل إلا نقيض ما قالوا . ولما قَدِم صفوان يقود ناقته بعائشة رآه بعض أهل النفاق فاتهموهما ، وقالوا في حقهما مَا لا يليق بأم المؤمنين ، وقد تولّى هذه الحملة رَأْسُ النفاق في المدينة عبد الله بن أُبيٍّ ومِسْطح بن أُثَاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله وأخت زينب بنت جحش ، فروَّجوا هذا الاتهام وأذاعوه بين الناس . ثم يقول سبحانه : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ … } [ النور : 11 ] لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته ؟ قالوا : لأن القرآن حين تُتَّهم عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سماوات في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة ، وحين يُفضَح قوم على لسان القرآن ، لا بُدَّ أن يعتبر الآخرون ، ويخافوا إنْ فعلوا مخالفة أنْ يفتضح أمرهم لذلك جاء هذا الموقف درساً عملياً لمجتمع الإيمان . نعم ، أصبحت الحادثة خيراً لأنها نوع من التأييد لرسول الله ولدعوته ، فالحق - تبارك وتعالى - يُؤيِّد رسوله في الأشياء المسرَّة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه ، ولو بالتدليس ، وبالمكر ولو بالإسرار والكَيْد الخفي ، ففي ذروة عداء قريش لرسول الله كان إيمان الناس به يزداد يوماً بعد يوم . وقد ائتمروا عليه وكادوا له ليلاً ليلة الهجرة ، فلم يفلحوا ، فحاولوا أن يسحروه ، وفعلاً صنعوا له سحراً ، ووضعوه في بئر ذروان في مُشْط ومشاطة ، فأخبره بذلك جبريل عليه السلام ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فجاء به . إذن : عجزوا في المواجهة ، وعجزوا في التبييت والكيد ، وعجزوا حتى في استخدام الجن والاستعانة به ، وهنا أيضاً عجزوا في تشويه صورة النبوة والنَّيْل من سمعتها ، وكأن الحق سبحانه يقول لأعدائه : اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبداً ، ومن هنا كانت حادثة الإفك خيراً لجماعة المؤمنين . ومع ذلك ، لم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون في حقها ، لكن تغيَّر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يَعُدْ يداعبها كعادته ، وكان يدخل عليها فيقول : " كيف تيكم " وقد لاحظت عائشة هذا التغيُّر لكن لا تعرف له سبباً إلى أنْ تصادف أنْ سارت هي وأم مِسْطح أحد هؤلاء المنافقين ، فعثرتْ فقالت : تعس مِسْطح فنهرتها عائشة : كيف تدعو على ابنها ، فقالت : إنك لا تدرين ما يقول ؟ عندها ذهبتْ السيدة عائشة إلى أمها وسألتها عَمَّا يقوله الناس فأخبرتها . لذلك لما نزلت براءة عائشة في القرآن قال لها أبو بكر : قومي فاشكري رسول الله ، فقالت : بل أشكر الله الذي بَرّأني . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ … } [ النور : 11 ] . عادةً ما يستخدم الفعل كَسَبَ المجرد في الخير ، والفعل اكتسب المزيد الدال على الافتعال في الشر ، لماذا ؟ قالوا : لأن فِعْل الخير يتمشى وطبيعة النفس ، وينسجم مع ذراتها وتكوينها ، فالذي يُقدِم على عمل الخير لا يقاوم شيئاً في نفسه ، ولا يعارض ملكَة من مَلَكَاته ، أو عادة من العادات . وهذه نلاحظها حتى في الحيوانات ، أَلاَ ترى القطة : إنْ وضعتَ لها قطعة لحم تجلس بجوارك وتأكلها ، وإنْ أخذتْها منك خَطْفاً تفرّ بها هاربة وتأكلها بعيداً عنك . إذن : في ذاتية الإنسان وفي تكوينه - وحتى في الحيوان - ما يُعرف به الخير والشر ، والصواب والخطأ . وأنت إذا نظرتَ إلى ابنتك أو زوجتك تكون طبيعياً مطمئناً لأن مَلكَات نفسك معك موافقة لك لا تعارضك في هذا الفعل ، فإنْ حاولتَ النظر إلى ما لا يحلّ لك تختلس النظرة وتسرقها ، وتحاول سترها حتى لا يلحظها أحد ، وقد ترتبك ويتغير لونك ، لماذا ؟ لأنك تفعل شيئاً غير طبيعي ، لا حَقَّ لك فيه ، فتعارضك ملكَاتُ نفسك ، وذراتُ تكوينك . فالأمر الطبيعي تستجيب له النفس تلقائياً ، أمّا الخطأ والشر فيحتاج إلى افتعال ، لذلك عبَّر عن المكر والتبييت والكيد بـ اكتسب الدال على الافتعال . وقوله تبارك تعالى : { وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] . تولَّى كبر الشيء : يعني قام به وله حَظٌّ وافر فيه ، أو نقول : هو ضالع فيه ، والمقصود هنا عبد الله بن أُبيّ الذي قاد هذه الحملة ، وتولّى القيام بها وترويجها { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] أي : يناسب هذه الجريمة .