Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 30-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تحدثت سورة النور من أولها عن مسألة الزنا والقذف والإحصان ، وحذرتْ من اتباع خطوات الشيطان التي تؤدي إلى هذه الجريمة ، وتحدثت عن التكافؤ في الزواج ، وأن الزاني للزانية ، والزانية للزاني ، والخبيثون للخبيثات والطيبون للطيبات . وهذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع والخليفة لله في أرضه ، فالله تعالى يريد مجتمعاً تضيء فيه القيم السامية ، مجتمعاً يخلو من وسائل العكننة والمخالفة والشَّحْناء والبغضاء ، فلو أننا طبَّقنا منهج الله الذي ارتضاه لنا لارتاح الجميع في ظله . ومسألة غَضِّ البصر التي يأمرنا بها ربنا - عز وجل - في هذه الآية هي صمام الأمان الذي يحمينا من الانزلاق في هذه الجرائم البشعة ، ويسد الطريق دونها لذلك قال تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ … } [ النور : 30 ] . وقلنا : إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة ، وكل جهاز إدراك له مناط : فالأذن تسمع الصوت ، والأنف يشم الرائحة ، واللسان للكلام ، ولذوْق المطعومات ، والعين لرؤية المرئيات ، لكن أفتن شيء يصيب الإنسان من ناحية الجنس هي حاسَّة البصر لذلك وضع الشارع الحكيم المناعة اللازمة في طرفي الرؤية في العين الباصرة وفي الشيء المبصر ، فأمر المؤمنين بغضِّ أبصارهم ، وأمر المؤمنات بعدم إبداء الزينة ، وهكذا جعل المناعة في كلا الطرفين . وحين تتأمل مسألة غَضِّ البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات : الأولى : أن يغضَّ هو بصره ولا تبدي هي زينتها ، فخطّ الفتنة مقطوع من المرسل ومن المستقبل ، الثانية : أن يغضَّ هو بصره وأن تبدي هي زينتها ، الثالثة : أن ينظر هو ولا تبدي هي زينتها . وليس هناك خطر على المجتمع أو فتنة في هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدام الآخر . إنما الخطر في القسمة الرابعة : وهي أن ينظر هو ولا يغضّ بصره ، وأنْ تتزين هي وتُبدي زينتها ، ففي هذه الحالة فقط يكون الخطر . إذن : فالحق - تبارك وتعالى - حرَّم حالة واحدة من أربع حالات ذلك لأن المحرّمات هي الأقل دائماً ، وهذا من رحمة الله بنا ، بدليل قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ … } [ الأنعام : 151 ] فالمحرمات هي المحصورة المعدودة ، أمّا المحللات فهي فوق الحصر والعَدِّ ، فالأصل في الأشياء أنها حلال ، وإذا أراد الحق سبحانه تحريم شيء نَصَّ عليه ، فانظر إلى هذه المعاملة الطيبة من ربك عز وجل . وكما أمر الرجل بغضِّ بصره ، كذلك أُمِرَتْ المرأة بغضِّ بصرها ، لأن اللَّفْتة قد تكون أيضاً للرجل ذي الوسامة و … و فإنْ كان حظ المرأة في رجل تتقحمه العين ، فلربما نظرتْ إلى غيره ، فكما يُقال في الرجال يُقال في النساء . هذا الاحتياط وهذه الحدود التي وضعها الله عز وجل وألزمنا بها إنما هي لمنع هذه الجريمة البشعة التي بُدِئَتْ بها هذه السورة لأن النظر أول وسائل الزنا ، وهو البريد لما بعده ، أَلاَ ترى شوقي رحمه الله حين تكلم عن مراحل الغَزَل يقول : @ نَظْرَةٌ فابتسَامَةٌ فسَلاَمٌ فكَلامٌ فموعِدٌ فَلِقَاءٌ @@ فالأمر بغَضِّ البصر لِيسدَّ منافذ فساد الأعراض ، ومَنْع أسباب تلوث النسل ليأتي الخليفة لله في الأرض طاهراً في مجتمع طاهر نظيف شريف لا يتعالى فيه أحد على أحد ، بأن له نسباً وشرفاً ، والآخر لا نسبَ له . ذلك ليطمئن كل إنسان على أن مَنْ يليه في الخلافة من أبناء أو أو أحفاد إنما جاءوا من طريق شرعيٍّ شريف ، فيجتهد كل إنسان في أن يُنشِّىء أطفاله تنشئةً فيها شفقة ، فيها حنان ورحمة لأنه واثق أنه ولده ، ليس مدسوساً عليه ، وأغلب الظن أن الذين يُهملون أطفالهم ولا يُراعون مصالحهم يشكُّون في نسبهم إليهم . ولا يصل المجتمع إلى هذا الطُّهْر إلا إذا ضمنتَ له الصيانة الكافية ، لئلا تشرد منه غرائز الجنس ، فيعتدي كل نظر على مَا لا يحلّ له لأن النظر بريد إلى القلوب ، والقلوب بريد إلى الجنس ، فلا يعفّ الفرج إلا بعفاف النظر . ونلحظ في قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ … } [ النور : 30 ] دقة بلاغ الرسول عن ربه - عز وجل - وأمانته في نقل العبارة كما أُنزِلَتْ عليه ، ففي هذه الآية كان يكفي أن يقول رسول الله : غُضُّوا أبصاركم ، لكنه التزم بنص ما أُنزِل عليه لأن القرآن لم ينزل للأحكام فقط ، وإنما القرآن هو كلام الله المنزّل على رسوله والذي يُتعبَّد بتلاوته ، فلا بُدَّ أنْ يُبلّغه الرسول كما جاءه من ربه . لذلك قال في البلاغ عن الله قُلْ وفي الفعل يَغضُّوا دلالةً على ملحظية قل ، فالفعل يغضوا مضارع لم تسبقه أداة جزم ، ومع ذلك حُذِفت منه النون ، ذلك لأنه جعل قُلْ ملحظية في الأسلوب . والمعنى : إنْ تقُل لهم غُضُّوا أبصاركم يغضُّوا ، فالفعل - إذن - مجزوم في جواب الأمر قُلْ . إذن { قُلْ … } [ النور : 30 ] تدل على أمانة الرسول في البلاغ ، وعلى أن القرآن ما نزل للأحكام فحسب ، إنما هو أيضاً كلام الله المعجز لذلك نحافظ عليه وعلى كل لفظة فيه ، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أتيتُ لكم بشيء من عندي ، ومهمتي أن أبلغكم ما قاله الله لي . وقوله : { لِّلْمُؤْمِنِينَ … } [ النور : 30 ] فما داموا مؤمنين بإله حكيم ، وقد دخلوا حظيرة الإيمان باختيارهم لم يُرغمهم عليه أحد ، فلا بُدَّ أنْ يلتزموا بما أمرهم ربهم به وينفذوه بمجرد سماعه . والغَضُّ : النقصان ، يقال : فلان يغُضُّ من قَدْر فلان يعني : ينقصه ، فكيف يكون النقصان في البصر ؟ أينظر بعين واحدة ؟ قالوا : البصر له مهمة ، وبه تتجلى المرائي ، والعين مجالها حر ترى كل ما أمامها سواء أكان حلالاً لها أو مُحرّماً عليها . فنقص البصر يعني : قَصْره على ما أحل ، وكفّه عما حُرم ، فالنقص نقص في المرائي وفي مجال البصر ، فلا تعطى له الحرية المطلقة فينظر إلى كل شيء ، إنما تُوقِفه عند أوامر الله فيما يُرى وفيما لا يُرى . و { مِنْ … } [ النور : 30 ] في قوله تعالى : { مِنْ أَبْصَارِهِمْ … } [ النور : 30 ] البعض يرى أنها للتبعيض كما تقول : كُلْ من هذا الطعام يعني : بعضاً منه ، فالمعنى : يغضُّوا بعض البصر لأن بَعضه حلال لا أغض عنه بصري ، وبعضه محرم لا أنظر إليه . أو : أن { مِنْ … } [ النور : 30 ] هنا لتأكيد العموم في أدنى مراحله ، وسبق أن تكلمنا عن مِنْ بهذا المعنى ، ونحن كلما توغلنا في التفسير لا بُدّ أن تقابلنا أشياء ذكرناها سابقاً ، ونحيل القارئ عليها . قلنا : فرق بين قولك : ما عندي مال ، وقولك : ما عندي من مال . ما عندي مال ، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يُعْتدّ به ، لكن ما عندي من مال نفي لجنس المال مهما قَلَّ ، فمِنْ تعني بدايةَ ما يقال له مال . فالمعنى هنا : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ … } [ النور : 30 ] يعني : بداية مَا يُقال له بصر ، ولو لمحة خاطفة ، ناهيك عن التأمل وإدامة البصر . وقلنا : إن الشرع لا يتدخل في الخواطر القلبية والهواجس ، إنما يتدخل في الأعمال النزوعية التي يترتب عليها فعل ، قلنا : لو مررتَ ببستان فرأيتَ به وردة جميلة ، فأعجبت بها وسُرِرْت وانبسطتْ لها أسارير نفسك ، كل هذا مباح لك لا حرجَ عليك فيه ، فإنْ تعدَّى الأمر ذلك فمددتَ إليها يدك لتقطفها ، هنا يتدخل الشرع يقول لك : قِفْ ، فليس هذا من حقك لأنها ليستْ لك . هذه قاعدة عامة في جميع الأعمال لا يستثني منها إلا النظر وحده ، وكأن ربنا - عز وجل - يستسمحنا فيه ، هذه المسألة من أجلنا ولصالحنا نحن ولراحتنا ، بل قل رحمة بنا وشفقة علينا من عواقب النظر وما يُخلِّفه في النفس من عذابات ومواجيد . ففي نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له : انظر كما تحب واعشق كما شئت ، فإن نزعْتَ إلى ضمة أو قبلة قلنا لك : حرام . لماذا ؟ لأن الأمر هنا مختلف تماماً ، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبداً . فساعة تنظر إلى المرأة هذا إدراك ، فإنْ أعجتبْك وانبسطتْ لها أساريرك ، فهذا وجدان ، لا بُدَّ أن يترك في تكوينك تفاعلاً كيماوياً لا يهدأ ، إلا بأن تنزع فإنْ طاوعْتَ نفسك في النزوع فقد اعتديتَ ، وإنْ كبتَّ في داخلك هذه المشاعر أصابتْك بعُقد نفسية ودعتْك إلى أن تبحث عن وسيلة أخرى للنزوع لذلك رحمك ربك من بداية الأمر ودعاك إلى مَنْع الإدراك بغضِّ البصر . لذلك بعد أن أمرنا سبحانه بعضِّ البصر قال : { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ … } [ النور : 30 ] لأنك لا تملك أن تفصل النزوع عن الوجدان ، ولا الوجدان عن الإدراك ، وإنْ أمكن ذلك في الأمور الأخرى ، فحين نمنعك عن قطف الوردة التي أعجبتْك لا يترك هذا المنع في نفسك أثراً ولا وَجْداً ، على خلاف ما يحدث إنْ مُنعتَ عن امرأة أعجبتك ، وهيَّجك الوجدان إليها . وحِفْظ الفروج يكون بأن نقصرها على ما أحلَّه الله وشرعه فلا أنيله لغير مُحلَّل له ، سواء كان من الرجل أو من المرأة ، أو : أحفظه وأصونه أن يُرى لأن رؤيته تهيج إلى الشر وإلى الفتنة . { ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ … } [ النور : 30 ] يعني : أطهر وأسلم وأدْعَى لراحة النفس لأنه إما أن ينزع فيرتكب محرماً ، ويلج في أعراض الناس ، وإما ألا ينزع فيُكدِّر نفسه ويُؤلمها بالصبر على مَا لا تطيق . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور : 30 ] فهو سبحانه خالق هذه النفس البشرية ، وواضع مسألة الشهوة والغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز ليربط بها بين الرجل والمرأة ، وليحقق بها عملية النسل وبقاء الاستخلاف في الأرض ، ولو لم تربط هذه العلاقة بالشهوة الملّحة لزهَدَ الكثيرون في الزواج وفي الإنجاب وما يترتب عليه من تبعات . أَلاَ ترى المرأة وما تعانيه من آلام ومتاعب في مرحلة الحمل ، وأنها ترى الموت عند الولادة ، حتى إنها لتقسم أنها لا تعود ، لكن بعد أن ترى وليدها وتنسى آلامها سرعان ما يعاودها الحنين للإنجاب مرة أخرى ، إنها الغريزة التي زرعها الله في النفس البشرية لدوام بقائها . وللبعض نظرة فلسفية للغرائز ، خاصة غريزة الجنس ، حيث جعلها الله تعالى أقوى الغرائز ، وربطها بلذة أكثر أثراً من لذة الطعام والشراب والشَّمِّ والسماع … إلخ فهي لذة تستوعب كل جوارح الإنسان وملكاته ، وما ذلك إلا حِرْصاً على بقاء النوع ودواماً للخلافة في الأرض . ثم يقول الحق سبحانه لرسوله : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا … } .