Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 35-35)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلنا : فإن الله تعالى أعطانا النور الحسيِّ الذي نرى به مرائي الأشياء ، وجعله وسيلة للنور المعنوي ، وقلنا إن الدنيا حينما تظلم ينير كل مِنَّا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة ، فإذا ما طلعتْ الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل مِنَّا نوره لأن نور الله كافٍ ، فكما أن نور الله كافٍ في الحسيات فنوره أيضاً كافٍ في المعنويات . فإذا شرع الله حكماً معنوياً يُنظِّم حركة الحياة ، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم ، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره ، والأمر واضح في الآيات الكونية . { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النور : 35 ] كما نقول ولله المثل الأعلى : فلان نوَّر البيت ، فالآية لا تُعرِّف الله لنا ، إنما تُعرِّفنا أثره تعالى فينا ، فهو سبحانه مُنوِّر السماوات والأرض ، وهما أوسع شيء نتصوره ، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحاً غيرَ خفيّ . ثم يضرب لنا ربنا - عز وجل - مثلاً توضيحياً لنوره ، فيقول : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ … } [ النور : 35 ] أي : مثَلُ تنويره للسماوات وللأرض { كَمِشْكَاةٍ … } [ النور : 35 ] وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديماً في الجدار ، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المِسْرجة ، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قوياً ، ولا يصنع ظِلاً أمام مسار الضوء . والمصباح : إناء صغير يُوضَع فيه زيت أو جاز فيما بعد ، وفي وسطه فتيل يمتصّ من الزيت فيظل مشتعلاً ، فإنْ ظلَّ الفتيل في الهواء تلاعبَ به وبدَّد ضوءه وسبَّب دخاناً لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق لذلك جعلوا على الفتيل حاجزاً من الزجاج ليمنع عنه الهواء ، فيأتي الضوء منه صافياً لا دخانَ فيه ، وكانوا يسمونه الهباب . وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته ، ومن ذلك قوله تعالى : { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ … } [ النور : 35 ] لكنها ليست زجاجة عادية ، إنما زجاجة { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ … } [ النور : 35 ] يعني : كوكب من الدُّرِّ ، والدُّر ينير بنفسه . كذلك زَيْتها ليس زيتاً عادياً ، إنما زيت زيتونة مباركة . يقول الحق سبحانه : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ … } [ النور : 35 ] . يعني : شجرة زيتون لا شرقية ولا غربية ، يعني : لا شرقية لأنها غربية ، ولا غربية لأنها شرقية ، فهي إذن شرقية غربية على حَدٍّ سواء ، لكن كيف ذلك ؟ قالوا : لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلماً ، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلماً ، إذن : يطرأ عليها نور وظلمة ، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية ، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء . وهذا يؤثر في زيتها ، فتراه من صفائه ولمعانه { يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . . } [ النور : 35 ] ، وتعطي الشجرة الضوء القوي الذي يناسب بنوتها للشمس ، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا ، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها ، ومنها تستمد نورها ، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس . إذن : مَثْلُ تنوير الله للسماوات وللأرض مثل هذه الصورة مكتملة كما وصفنا ، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات ، أيكون بها موضع مظلم ؟ فالسماوات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة ، والمثل هنا ليس لنور الله ، إنما لتنويره للسماوات وللأرض ، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أنْ يُوصَف . وما المثَل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان . وسبق أنْ ذكرنا قصة أبي تمام حين وصف الخليفة ومدحه بأبرز الصفات عند العرب ، فقال : @ إقْدَامُ عَمْرٍو فِي سَمَاحَةٍ حَاتمٍ في حِلْم أحنفَ في ذَكَاءِ إيَاسِ @@ فجمع للخليفة كل هذه الصفات ومدحه بأشهر الخصال عند العرب لذلك قام إليه أحد الحاقدين وقال معترضاً عليه : كيف تشبه الخليفة بصعاليك العرب ؟ فالأمير فوق مَنْ وصفتَ . فأكمل أبو تمام على البديهة وبنفس الوزن والقافية : @ لاَ تُنكروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ فَاللهُ قَدْ ضربَ الأقلَّ لنُورِهِ مَثَلاً من المشْكَاةِ والنِّبراسِ @@ فالله - تبارك وتعالى - هو نور السماوات والأرض أي : مُنوِّرهما ، وهذا أمر واضح جداً حينما تنظر إلى نور الشمس ساعة يظهر يجلو الكون ، بحيث لا يظهر معه نور آخر ، وتتلاشى أنوار الكواكب الأخرى والنجوم رغم وجودها مع الشمس في وقت واحد ، لكن يغلب على نورها نور الشمس ، على حَدِّ قول الشاعر في المدح : @ كأنكَ شَمْسٌ والمُلوكُ كَواكبٌ إذَا ظَهَرتْ لَمْ يَبْدُ منهُنّ كوكَبُ @@ ثم يقول سبحانه : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ … } [ النور : 35 ] فلم يتركنا الحق - سبحانه وتعالى - في النور الحسيِّ فقط ، إنما أرسل إلينا نوراً آخر على يد الرسل هو نور المنهج الذي ينظم لنا حركة الحياة ، كأنه تعالى يقول لنا : بعثت إليكم نوراً على نور ، نور حِسيِّ ، ونور قيمي معنوي ، وإذا شهدتم أنتم بأن نوري الحسيّ ينير لكم السماوات والأرض ، وإذا ظهر تلاشت أمامه كل أنواركم ، فاعلموا أن نور منهجي كذلك يطغَى على كل مناهجكم ، وليس لكم أن تأخذوا بمناهج البشر في وجود منهج الله . وقوله تعالى : { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ … } [ النور : 35 ] أي : لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف ، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور ، وإنِ اهتدوا إلى النور الحسيِّ في الشمس والقمر وانتفعوا به ، وأطفأوا له مصابيحهم ، لكن لم يكُنْ لهم حظ في النور المعنوي ، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلوبهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به . وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مِثْلُ نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه ، لذلك جاء في أثر علي بن أَبي طالب : " من تركه من جبَّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله " . والعجيب أن العبد كلما توغل في الهداية ازداد نوراً على نور ، كما قال سبحانه : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] . وقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . ثم يقول تعالى : { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ … } [ النور : 35 ] يعني : للعبرة والعِظة مثل المثل السابق لنوره تعالى { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } [ نور : 35 ] .