Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 36-36)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بدأت الآية بالجار والمجرور { فِي بُيُوتٍ … } [ النور : 36 ] ولا بُدَّ أن نبحث له عن متعلق ، فالمعنى : هذا النور الذي سبق الحديث عنه في بيوت أَذِن الله أن تُرفع . والبيت : هو ما أُعِدَّ للبيتوتة ، بل لمعيشة الحياة الثابتة ، وإليه يأوي الإنسان بعد عناء اليوم وطوافه في مناكب الأرض ، والبيت على أية صورة هو مكان الإنسان الخاص الذي يعزله عن المجتمع العام ، ويجعل له خصوصية في ذاته ، وإلا فالإنسان لا يرضى أن يعيش في ساحة عامة مع غيره من الناس . وهذه الخصوصية في البيوت يتفاوت فيها الناس وتتسامى حسْب إمكاناتهم ، وكل إنسان يريد أنْ يتحيّز إلى مكان خاص به لأن التحيّز أمر مطلوب في النفس البشرية : الأسرة تريد أن تتحيز عن المجتمع العام ، والأفراد داخل الأسرة يريدون أن يتحيزوا أيضاً ، كل إلى حجرة تخصه ، وكذلك الأمر في اللباس ، ذلك لأن لكل واحد منا مساتير بينه وبين نفسه ، لا يحب أن يطلع عليها أحد . وقد اتخذ الله له بيتاً في الأرض ، هو أول بيت وُضِع للناس ، كما قال الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً … } [ آل عمران : 96 ] . وهذا هو بيت الله باختيار الله ، ثم تعددتْ بيوت الله التي اختارها خَلْق الله ، فكما اتخذتم لأنفسكم بيوتاً اتخذ الله لنفسه بيوتاً { أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ … } [ النور : 36 ] وأنتم جميعاً عباد الله وعيال الله ، وسوف تجدون الراحة في بيته تعالى كما تجدون الراحة في بيوتكم ، مع الفارق بين الراحة في بيتك والراحة في بيت الله . الراحة في بيوتكم راحة حِسِّية بدنية في صالون مريح أو مطبخ مليء بالطعام ، أمّا في بيت الله فالراحة معنوية قيمية لأن ربك - عز وجل - غيْبٌ فيريحك أيضاً بالغيب . لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة ليُلقي بأحماله على ربه . وماذا تقول في صنعة تُعرض على صانعها مرة واحدة كل يوم ، أيبقى بها عطل أو فساد ؟ فما بالك إنْ عُرِضَتْ على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة ؟ فربُّكَ يدعوك إلى بيته ليريحك ، وليحمل عنك همومك ، ويصلح ما فسد فيك ، ويفتح لك أبواب الفرج . إذن فنور على نور هذه لا تكون إلا في بيوت الله التي أذِن سبحانه أن تُرفعَ بالذكر وبالطاعات وترفع عما يحل في الأماكن الأخرى وتعظم . فالبيوت كلها لها مستوى واحد ، لكن ترفع بيوت عن بيوت وتُعلَّى وقد رُفِعَت بيوت الله بالطاعة والعبادة ، فالمسجد مكان للعبادة لا يُعصَى الله فيه أبداً على خلاف البيوت والأماكن الأخرى ، فعظّم الله بيوته أن يُعْصَى فيها ، وعظّم روادها أن يشتغلوا فيها بسفاسف الأمور الحياتية الدنيوية ، فعليك أن تترك الدنيا على باب المسجد كما تترك الحذاء . لذلك نهى الإسلام أن نعقد صفقة في بيت الله ، أو حتى ننشد فيه الضالة لأن الصفقة التي تُعقَد في بيت الله خاسرة بائرة ، والضالة التي ينشدها صاحبها فيه لا تُردُّ عليه ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول لمن يفعل هذا بالمسجد " لا ردها الله عليك " . وإنْ جعل الله الأرض كلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً ، لكن فَرْقٌ بين الصلاة في المسجد والصلاة في أيِّ مكان آخر ، المسجد خُصِّص للعبادة ، ولا نذكر فيه إلا الله ، أمّا الأماكن الأخرى فتصلح للصلاة ، وأيضاً لمزاولة أمور الدنيا . وإلا ، فكيف تعيش كل وقتك لأمور الدنيا على مدار اليوم والليلة ، ثم تستكثر على ربك هذه الدقائق التي تؤدي فيها فَرْض الله عليك فتجرجر الدنيا معك حتى في بيت الله ؟ ألا تعلم أن بيوت الله ما جُعِلت إلا لعبادة الله ؟ لا بد للمؤمن أن يترك دُنْياه خارج المسجد ، وأن ينوي الاعتكاف على عبادة ربه والمداومة على ذِكْره في بيته ، فلا يليق بك أن تكون في بيت الله وتنشغل بغيره . فإن التزمتَ بآداب المسجد تلقيتَ من ربك نوراً على نور ، وزال عن كاهلك الهمّ والغم وحُلَّت مشاكلك من حيث لا تحتسب . إذن : فالحق - تبارك وتعالى - جعل في الفطرة الإيمانية أن تؤمن بإله ، فالإيمان أمر فطري مهما حاول الإنسان إنكاره ، فالكافر الذي ينكر وجود الله ساعة يتعرَّض لأزمة لا منجاةَ منها بأسباب البشر تجده تلقائياً يتوجه إلى الله يقول : يا رب ، لا يمكن أن يكذبَ على نفسه في هذه الحالة أو يُسلم نفسه ويبيعها رخيصة . وفي ذلك يقول تعالى : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤاْ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً … } [ الزمر : 8 ] . ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ … } [ الجمعة : 9 ] . فذكر طرفاً واحداً من عملية التجارة وهو البيع ، ولم يقل : والشراء ، قالوا : لأنه حين يُمنع البيع يُمنع الشراء في الوقت نفسه ولأن الإنسان يحرص على البيع لكن قد يشتري وهو كاره ، فشهوة الإنسان متعلقة بالبيع لا بالشراء ، لأن الشراء يحتاج منه إلى مال على خلاف البيع الذي يجلب له المال . إذن : قوله تعالى : { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ … } [ الجمعة : 9 ] إنما ذكر قمة حركة الحياة وخلاصتها ، فكل حركات الحياة من تجارة أو زراعة أو صناعة تنتهي إلى مسألة البيع لذلك يحزن البائع إذا لم يَبِعْ ، أما المشتري فيقول حين لا يجد الشيء أو يجد المحل مُغلَقاً : بركة يا جامع . ثم إذا انتهتْ الصلاة يعيدنا من جديد إلى حركة الحياة : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 10 ] . كأنك ذهبتَ للمسجد لتأخذ شحنة إيمانية تعينك وتسيطر على كُلِّ حواسك في حركتك في التجارة ، وفي الإنتاج ، وفي الاستهلاك ، وفي كل ما ينفعك ويُنمي حياتك . وحين يأمرك ربك أن تفرغ لأداء الصلاة لا يريد من هذا الفراغ أن يُعطّل لك حركة الحياة ، إنما ليعطيك الوقود اللازم لتصبح حركة حياتك على وَفْق ما أراده الله . وما أشبه هذا الوقت الذي نختزله من مصالح دنيانا في عبادة الله بشحن بطارية الكهرباء ، فحين تذهب بالبطارية إلى جهاز الشحن لا نقول : إنك عطلت البطارية إنما زدتَ من صلاحيتها لأداء مهمتها وأخْذ خيرها . فأنت تذهب إلى بيت الله بنور الإيمان ، وبنور الاستجابة لنداء : الله أكبر ، فتخرج بأنوار متعددة من فيوضات الله لذلك ضرب لنا الحق - تبارك وتعالى - مثلاً لها النور بالمصباح الذي يتنامى نوره ويتصاعد لأنه في زجاجة تزيد من ضوئه لأنها مثل كوكب دُريٍّ والنور يتصاعد لأنها بزيت زيتونة ، ويتصاعد لأنها شرقية وغربية في آن واحد ، إذن : عندنا ألوان متعددة في المثل ، فكذلك النور في بيوت الله . لذلك قال بعض العارفين : أهل الأرض ينظرون في السماء نجوماً متلألئة ، والملائكة في السماء ينظرون نجوماً متلألئة من بيوت الله ، ولا عجبَ في ذلك لأنها أنوار الله تتلألأ وتتدفق في بيته وفي مسجده ، وكيف نستبعد ذلك ونحن نرى نور الشمس كيف يفعل حينما ينعكس على سطح القمر فيُلقِي إلينا بالضوء الذي نراه ؟ والشمس والقمر أثر من آثار نور الله الذي يَسْطع في بيوت الله ، ألاّ يعطينا ذلك الإشعاع الذي يفوق إشعاع البدور ؟ ثم يقول تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ النور : 36 ] فالمساجد جُعِلَتْ لتسبيح الله لذلك كان بعض الصالحين إذا نزل بلداً يتحيل أن ينزلها في غير وقت الصلاة ، ثم يذهب إلى المسجد فإنْ وجده عامراً في غير وقت الصلاة بالمسبحين علم أن هؤلاء ملتزمون بمنهج الله ، حيث يجلسون قبل وقت الصلاة يُسبِّحون الله وينتظرون الصلاة ، وإنْ وجد الحال غير ذلك انصرف عنها وعلم أنها بلد لا خيرَ فيها . والغُدوُّ : يعني الصباح ، والآصال : يعني المساء ، فهي لا تخلو أبداً من ذكْر الله وتسبيحه ، وقد وصف هؤلاء الذين يعمرون بيوت الله بالذكر والتسبيح بأنهم : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ … } .