Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 39-39)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يلفت أنظار مَنْ شغلتهم الدنيا بحركتها ونشاطها عن المراد بالآخرة ، فيصنعون صنائع معروفٍ كثيرة ، لكن لم يُخلصوا فيها النية لله ، والأصل في عمل الخير أن يكون من الله ولله ، وسوف يُواجَه هؤلاء بهذه الحقيقة فيقال لأحدهم كما جاء في الحديث : " عملت ليقال وقد قيل " . لقد مدحوك وأثنَواْ عليك ، وأقاموا لك التماثيل وخَلَّدوا ذِكْراك لذلك رسم لهم القرآن هذه الصورة : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً … } [ النور : 39 ] . { أَعْمَالُهُمْ … } [ النور : 39 ] أي : التي يظنونها خيراً ، وينتظرون ثوابها ، والسراب : ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة كأنه ماء وليس كذلك . وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء ، و " قِيعة " : جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة . وأسند الفعل { يَحْسَبُهُ … } [ النور : 39 ] إلى الظمآن لأنه في حاجة للماء ، وربما لو لم يكُنْ ضمآناً لما التفتَ إلى هذه الظاهرة ، فلظمئه يجري خلف الماء ، لكنه لا يجد شيئاً ، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ … } [ النور : 39 ] فُوجىء بإله لم يكُنْ على باله حينما فعل الخير ، إله لم يؤمن به ، والآن فقط يتنبه ، ويصحو من غَفْلته ، ويُفَاجأ بضياع عمله . إذن : تجتمع عليه مصيبتان : مصيبة الظمأ الذي لم يجد له رِياً ، ومصيبة العذاب الذي ينتظره ، كما قال الشاعر : @ كَما أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامَةٌ فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتَجلَّتِ @@ وسبق أن ضربنا مثلاً لهذه المسألة بالسجين الذي بلغ منه العطش مبلغاً ، فطلب الماء ، فأتاه الحارس به حتى إذا جعله عند فيه واستشرف المسكين للارتواء أراق الحارسُ الكوبَ ، ويُسمُّون ذلك : يأْسٌ بعد إِطْماع . لذلك الحق تبارك وتعالى يعطينا في الكون أمثلة تُزهِّد الناس في العمل للناس من أجل الناس ، فالعمل للناس لا بُدَّ أن يكون من أجل الله . وفي الواقع تصادف مَنْ ينكر الجميل ويتنكر لك بعد أنْ أحسنْتَ إليه ، وما ذلك إلا لأنك عملتَ من أجله ، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس ، ولو فعلتَ ما فعلتَ من أجل الله لوجدتَ الجزاء والثواب من الله قبل أنْ تنتهي من مباشرة هذا الفعل . وفي موضع آخر يُشبِّه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء ، فلا ينبت شيئاً : { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] فإياك أنْ تستبعد الموت أو البعث ، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمنٌ لا يُحسَب لأنه يمرُّ عليك دون أن تشعر به ، كما قال سبحانه : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] . والله تعالى أخفى الموت أسباباً وميعاداً لأن الإبهام قد يكون غاية البيان ، وبإبهام الموت تظل ذاكراً له عاملاً للآخرة لأنك تتوقعه في أي لحظة ، فهو دائماً على بالك ، ومَنْ يدريك لعلَّك إنْ خفضْتَ طرْفك لا ترفعه ، وعلى هذا فالحساب قريب وسريع لذلك قالوا : مَنْ مات فقد قامت قيامته . ثم يقول الحق سبحانه : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ … } .