Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 58-58)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تُعلِّمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكوَّنة من الأبويْن والأبناء ، ثم الأتباع مثل الخدم وغيرهم ، والحق - تبارك وتعالى - يريد أن يُنشِّىءَ هذه الأسرة على أفضل ما يكون ، ويخصّ بالنداء هنا الذين آمنوا ، يعني : يا من آمنتم بي رباً حكيماً مُشرِّعاً لكم حريصاً على مصلحتكم استمعوا إلى هذا الأدب : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ … } [ النور : 58 ] . معلوم أن طلب المتكلم من المخاطب يأتي على صورتين : فعل الأمر وفعل المضارع المقترن بلام الأمر ، فقوله تعالى : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ … } [ النور : 58 ] يعني : عَلِّموا هؤلاء أن يستأذنوا عليكم ، مثل : { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً … } [ النور : 33 ] يعني : استعفوا ، لأن اللام هنا لام الأمر ، ومثل : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ … } [ الطلاق : 7 ] . وهذا الأدب تكليف من الله تعالى يُكلِّف به كل مؤمن داخل الأسرة ، وإنْ كان الأمر هنا لغير المأمور ، فالمأمور بالاستئذان هم مِلْك اليمين والأطفال الصغار ، فأمر الله الكبارَ أن يُعلِّموا الصغار ، كما ورد في الحديث الشريف : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " . فلم يُكلِّف بهذا الصغار إنما كُلِّف الكبار لأن الأطفال لم يبلغوا بَعْد مبلغ التكليف من ربهم ، إنما بلغوا مبلغ التكليف عندكم أنتم ، لذلك أنت الذي تأمر وأنت الذي تتابع وتعاقب . وأْمُرْ الصغير بالصلاة أو بالاستئذان لِتُربي فيه الدربة والتعود على أمر قد يشقُّ عليه حال كِبَره ، إنما إنْ عوَّدته عليها الآن فإنها تسهل عليهم عند سِنِّ التكليف ، وتتحول العادة في حقه إلى عبادة يسير عليها . وشرع الله لنا آداب الاستئذان لأن للإنسان ظاهراً يراه الناس جميعاً ويكثر ظاهره للخاصة من أهله في أمور لا يُظهرها على الآخرين ، إذن : فَرُقْعة الأهل والملاصقين لك أوسع ، وهناك ضوابط اجتماعية للمجتمع العام ، وضوابط اجتماعية للمجتمع الخاص وهو الأسرة ، وحرية المرء في أسرته أوسع من حريته في المجتمع العام ، فإنْ كان في حجرته الخاصة كانت حريته أوسعَ من حريته مع الأسرة . فلا بُدَّ إذن من ضوابط تحمي هذه الخصوصيات ، وتُنظِّم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة ، كما سبقت ضوابط تُنظِّم علاقات الأفراد خارج الأسرة . ومعنى : { ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ … } [ النور : 58 ] هم العبيد الذين يقومون على خدمة بعض الناس وليس الأجير لأن الأجير حر يستطيع أن يتركك في أي وقت ، أمَّا العبد فليس كذلك لأنه مملوك الرقبة لا حريةَ له ، فالمملوكية راجحة في هؤلاء ، وللسيد السيطرة والمهابة فلا يستطيع أن يُفْلت منه . { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ … } [ النور : 58 ] هم الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبْلَغ التكليف ، ويقضون المصالح فتراهم في البيت يدخلون ويخرجون دون ضابط ، فهل نتركهم هكذا يطَّلِعون على خصوصياتنا ؟ وللخدم في البيت طبيعة تقتضي أن يدخلوا علينا ويخرجوا ، وكذلك الصغار ، إلا في أوقات ثلاثة لا يُسْمح لهم فيها بالدخول إلا بعد الاستئذان : { مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ . . } [ النور : 58 ] لأنه وقت متصل بالنوم ، والإنسان في النوم يكون حُرَّ الحركة واللباس { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ … } [ النور : 58 ] وهو وقت القيلولة ، وهي وقت راحة يتخفّف فيها المرء من ملابسه { وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ … } [ النور : 58 ] وبعد العشاء النوم . هذه أوقات ثلاثة ، لا ينبغي لأحد أن يدخل عليك فيها إلا بإذنك . وانظر إلى هذا التحفّظ الذي يوفره لك ربك - عز وجل - حتى لا تُقيِّد حريتك في أمورك الشخصية ومسائلك الخاصة ، وكأن هذه الأوقات مِلْكٌ لك أيها المؤمن تأخذ فيها راحتك وتتمتع بخصوصياتك ، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيأ لمقابلة المستأذن . أما في بقية الأوقات فالكل يستأذن عليك حتى الزوجة . وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد سيدنا عمر في أمر من الأمور ، فأرسل إليه غلاماً من الأنصار ، فلما ذهب الغلام دفع الباب ونادى : يا عمر . فلم يرد لأنه كان نائماً ، فخرج الغلام وجلس في الخارج ودَقَّ الباب فلم يستيقظ عمر ، فماذا يفعل الغلام ؟ رفع الغلام يديه إلى السماء وقال : يا رب أيقظه . ثم دفع الباب ودخل عليه ، وكان عمر نائماً على وضع لا يصح أن يراه عليه أحد ، واستيقظ عمر ولحظ أن الغلام قد رآه على هذا الوضع ، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله نريد أن يستأذن علينا أبناؤنا ونساؤنا وموالينا وخدمنا ، فقد حدث من الغلام كيت وكيت ، فنزلت هذه الآية . ويُسمِّي الله تعالى هذه الأوقات الثلاثة عورة : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ … } [ النور : 58 ] والعورة : هي ما يحب الإنسان ألاّ يراها أحد ، أو يراه عليها لأنها نوع من الخلل والخصوصية ، والله لا يريد أنْ يراك أحد على شيء تكرهه . لذلك يقولون لمن به خَلَل في عينه مثلاً : أعور ، والعرب تقول للكلمة القبيحة : عوراء ، كما قال الشاعر : @ وعَوْراء جاءتْ من أخٍ فردَدْتُها بِسالمةِ العَيْنيْنِ طَالِبةً عُذْراً @@ يعني : كلمة قبيحة لم أردّ عليها بمثلها ، إنما بسالمة لا عين واحدة ، بل بسالمة العينين الاثنين . ثم يقول سبحانه : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ … } [ النور : 58 ] يعني : بعد هذه الأوقات : لا إثمَ ولا حرجَ عليكم ، ولا على المماليك ، أو الصغار أنْ يدخلوا عليكم ، ففي غير هذه الأوقات يجلس المرء مُسْتعداً لممارسة حياته العادية ، ولا مانع لديه من استقبال الخَدَم أو الأَطفال الصغار دون استئذان لأن طبيعة المعيشة في البيوت لا تستغني عن دخول هؤلاء وخروجهم باستمرار . لذلك قال تعالى بعدها : { طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ … } [ النور : 58 ] يعني : حركتهم في البيت دائمة ، دخولاً وخروجاً ، فكيف نُقيِّدها في غير هذه الأوقات ؟ { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ … } [ النور : 58 ] أي : بياناً واضحاً ، حتى لا يحدث في المجتمع تناقضات فيما بعد { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ … } [ النور : 58 ] بكل ما يُصلح الخلافة في الأرض { حَكِيمٌ } [ النور : 58 ] في تشريعاته وأوامره ، لا يضع الحكم إلا بحكمة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ … } .