Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 15-15)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُلْ } [ الفرقان : 15 ] أَمْر لرسول الله بأن يقول ، والمقول له هم الذين اعترضوا على نبوته صلى الله عليه وسلم باعتراضات واهية من المعاصرين له ، وكانوا يتخبّطون في هذه المسائل تخبُّط مَنْ لا يعرف فيها حقيقة ، وإنما غرضه فقط أنْ يتعرّض لرسول الله في أمر دعوته ، والتعرُّض لأيِّ نبيٍّ في أمر دعوته من المعاصرين له أمر طبيعي لأن الرسل إنما يجيئون حين يستشري الفساد . وسبق أنْ قُلْنا : إن الحق - سبحانه وتعالى - جعل في كل نفس ملَكةً تجعل الإنسان يفعل شيئاً ، ثم تأتي ملَكة أخرى فيه لتلومه على ذلك ، حينئذ تكون المناعة في ذات الإنسان ويُسمُّونها النفس اللوَّامة ، لكن قد تنطمس فيه هذه الملَكة ، فتتعاون كل مَلَكاته على الشر ، بحيث تكون النفس بكل مَلَكاتها أمّارة بالسوء ، وهي أمَّارة بصيغة المبالغة لا آمرة أي : أنها أخذْت هذا الأمر حِرْفةً لها . كما لو رأيت رجلاً يَنْجُر في قطعة من الخشب تقول له : ناجر ، فإنِ اتخذها حرفةً له ، لا يعمل إلا هي ، تقول له : نجار ، ومثله : خائط وخيّاط . فالمعنى : أمّارة يعني : لم يَعُدْ لها عمل في أن تردع عن الشر ، بل دائماً تُقوِّي نوازع الشر في النفس ، وتتأصل فيها حتى تصير لها حرفة . فماذا يكون الموقف إذن ؟ لا بُدَّ أنْ يجعل الحق سبحانه في نفوس قوم آخرين مَلَكة الخير ليواجهوا أصحاب هذه الأنفس الأمّارة بالسوء ، يواجهونهم بالنصح والإرشاد والموعظة ، ويصرفونهم عن الشر إلى الخير . فإذا ما فسد المجتمع كله ، لا نفسٌ مانعة ، ولا مجتمعٌ مانع ، فلا بُدَّ أنْ تتدخّل السماء برسول جديد . ومن رحمة الله بالعالم أنه سبحانه ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون فيها النفس اللوامة ، وضمن لها أنْ يظل مجتمعها آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر لذلك لا حاجةَ لرسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن : فالمناعة موجودة في أمة الإسلام ، ولو لم تكُنْ هذه المناعة موجودة في النفس أولاً ، وفي المجتمع ثانياً لتدخلتْ السماء بعد رسول الله برسول جديد ومعجزة جديدة ليعيد الخَلْق إلى رُشْدهم . ولا شكَّ أن في المجتمع طائفةً تنتفع بهذا الفساد ، ويعيشون في ترف في ظله ، فطبيعي - إذن - أنْ يدافعوا عنه ، وطبيعي أنْ يتصدَّوْا لدعوة الرسول التي جاءتْ لتعدل ميزان المجتمع ، وأنْ يقفوا له بالمرصاد لأنه يهدِّد هذه النفعية ويقضي على مصلحتهم . وإنْ كان الرسل السابقون قد تعرّضوا لمثل هذا الاضطهاد ، فقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأضعاف ما تعرَّضوا له لأن اضطهاده صلى الله عليه وسلم جاء مناسباً لضخامة مهمته ، فقد جاءتْ الرسل قبله ، كُلٌّ إلى أمته خاصة في زمن محدد ، أمّا رسالته صلى الله عليه وسلم فقد جاءت للناس كافة ، تعمُّ كل الزمان وكل المكان إلى أن تقوم الساعة ، فلا بُدَّ إذن أن تكون مهمته أصعب . وهؤلاء الكبراء الذين ينتفعون بالفساد في المجتمع يظنون أن رسول الله إذا لُوِّح له بالمال والنعيم يمكن أن يتنازل عن دعوته ، ويترك لهم الساحة لذلك اجتمع صناديد قريش على رسول الله ، يُلوِّحون له بالمال والجاه والسلطان ، ليصدُّوه عن الدعوة ويصرفوه عنها ، هؤلاء الذين سماهم أستاذنا الشيخ موسى : دستة الشر ، وكانوا اثنا عشر رجلاً ، منهم : أبو البختري ، وأبو جهل ، وأبو سفيان ، والأسود بن المطلب ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، وعتبة بن ربيعة ، ومُنبِّه بن الحجاج ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وشيبة بن ربيعة ، ونُبيه بن الحجاج . لقد ذهب هؤلاء إلى سيدنا محمد رسول الله يقولون : " نحن وفد قومك إليك ، جئنا لنقدِّم المعذرة حتى لا يلومنا أحد بعد ذلك ، فإنْ كنتَ تريد مالاً جمعنا لك الأموال ، وإنْ كنتَ تريد شرفاً سوَّدناك علينا ، وإن كنت تريد مُلْكاً ملّكناك علينا " . وفَرْق بين المال والشرف : المال أن يكون الإنسان غنياً ، لكن ربما لا شرفَ له ، ولا مكانةَ بين الناس ، وهناك مَنْ له شرف وسيادة ، وليس له مال . ونلحظ أنهم ارتقوْا في مساومة رسول الله من المال إلى الشرف والسيادة ، ثم إلى الملْك . فماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم ؟ كان موقفه هو الموقف الذي مهَّد الله له به ، حينما عرض عليه جبريل عليه السلام أن يجعل الله له جبال مكة ذهباً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " بل أشبع يوماً فأشكر ، وأجوع ثلاثة أيام فأتضرع " . وفي موقف آخر ، قال له جبريل : " يُخيِّرك ربك أن تكون نبياً ملكاً ، أو نبياً عبداً فقال : بل نبياً عبداً " . والنبي مالك منهج السماء ، والملك الذي يملك السيطرة بحيث لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه ، مثل سليمان عليه السلام ، حيث آتاه الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، ومع ذلك لم يكن هذا الملْك هو المطلوب في ذاته ، بدليل أن سليمان - عليه السلام - مع ما أوتية من الملْك كان لا يأكل إلا الخوشكار يعني : الخبز الأسمر غير النقي الردَّة في حين يأكل عبيده ومواليه الدقيق الفاخر النقي ، فلم يكن سليمان يريد الملْك لذاته ، إنما ليقْوَى به على دعوته ، فلا يعارضه فيها أحد . لذلك ، لما أرسلتْ إليه ملكة سبأ بهدية لتستميله بها وتَصْرفه عما يريد رَدّ عليها : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَٰنِ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] . لذلك جاءته صاغرة تقول : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] . إذن : مسألة المال هذه عُرِضَتْ على رسول الله قبل أن يقترحها كفار مكة ، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد رفضه مِمَّن يملكه ، فكيف يقبله مِمَّنْ لا يملك شيئاً ؟ لذلك قال لهم : " والله ما بي حاجة إلى ما تقولون ، فلست طالب مال ، ولا مُلْك ، ولا شرف ، إنما أنا رسول الله أُرسِلْتُ إليكم ، ومعي كتاب فيه منهجكم ، وأمرني ربي أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فإنْ جئتم على ما أحب فقد ضمنتم حظّ الدنيا والآخرة ، وإنْ رددتُمْ عليَّ قولي فإنني سأصبر إلى أن يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين " . فلجئوا إلى عم النبي صلى الله عليه وسلم ، لعله يستطيع أن يستميله ، فلما كلَّمه عمه قال قولته المشهورة : " والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه حتى يُظهِره الله أو أهلك دونه " . { أَذٰلِكَ } [ الفرقان : 15 ] أي : ما أنتم فيه الآن من العذاب خير ، أم جنة الخلد التي وُعِد المتقون ؟ احكموا أنتم في هذه المسألة وسنرضى بحكمكم ، إنها إغاظة لأهل النار ، حيث جمع الله عليهم مقاساة العذاب مع النظر إلى أهل الجنة وما هم فيه من النعيم ، ولو كانت الأُولى وحدها لكانت كافية ، إنما هو في العذاب ويأتيه أهل الجنة لِيُبكّتوه : انظر ما فاتك من النعيم ! ! وفيها أيضاً تقريع لهم ، فليس هناك وجه للمقارنة بين الجنة والنار ، فأنت مثلاً لا تقول : العسل خير أم الخل لأنه أمر معروف بداهة . وسبق أنْ تكلّمنا عن الصراط ، ولماذا ضُرِب على مَتْن جهنم ، والجميع يمرون عليه لأن الله - تبارك وتعالى - يريد أنْ يجعل لك من مرائي النار التي تمرُّ عليها فوق الصراط نعمة أخرى تُذكِّرك بالنجاة من النار قبل أنْ تباشر نعيم الجنة . لذلك لا يمتن الله علينا بدخول الجنة فحسب ، إنما أيضاً بالنجاة من النار ، فيقول سبحانه : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ … } [ آل عمران : 185 ] . فالحق - سبحانه وتعالى - يذكر لنا النار ، وأن من صفاتها كذا وكذا ، أما في الآخرة فسوف نراها رَأْي العين ، كما قال سبحانه : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 7 ] وذلك حين تكون على الصراط ، فتحمد الله على الإسلام الذي أنجاك من النار ، وأدخلك الجنة ، فكل نعمة منها أعظم من الأخرى . وفي قوله تعالى : { قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ … } [ الفرقان : 15 ] كلمة خير في اللغة تدور على معنيين : خير يقابله شَرٌّ ، وخير يقابله خير أعظم منه . كما جاء في الحديث الشريف : " المؤمن القوي خير وأَحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كُلٍّ خير " فكلاهما فيه خير ، وإن زاد الخير في المؤمن القوي ، وعادة ما تأتي من في هذا الأسلوب : هذا خير من هذا . أما الخير الذي يقابله شر ، فمثل قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [ البينة : 7 ] . والجنة كما نستعملها في استعمالات الدنيا ، هي المكان المليء بالأشجار والمزروعات التي تستر السائر فيها ، أو تستر صاحبها أنْ ينتقلَ منها إلى خارجها لأن بها كل متطلبات حياته ، بحيث يستغني بها عن غيرها ، لذلك أردفها الحق - تبارك وتعالى - بقوله : { ٱلْخُلْدِ … } [ الفرقان : 15 ] . إذن : فالجنة التي تراها في الدنيا مهما بلغت فليست هي جنة الخلد لأنها لا بد إلى زوال ، فعُمرها من عُمْر دُنْياها ، كأنه سبحانه يقول لكل صاحب جنة في الدنيا : لا تغترْ بجنتك لأنها ستؤول إلى زوال ، وأشدّ الغم لصاحب السرور أنْ يتيقن زواله ، كما قال الشاعر : @ أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدي فِي سُرُورٍ تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُه انْتِقَالاَ @@ لذلك يُطمئِن الله تعالى عباده المؤمنين بأن الجنة التي وعدهم بها هي جنة الخلد والبقاء ، حيث لا يفنى نعيمها ، ولا يُنغّص سرورها ، فلذَّاتها دائمة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة . وقوله تعالى : { ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [ الفرقان : 15 ] الوعد هنا من الله تعالى الذي يملك كل أسباب الوفاء ، والوَعْد بشارة بخير قبل مجيئه لتستعد لأن تكون من أهله ، ويقابله الإنذار ، وهو التهديد بشرٍّ قبل مجيئه لتتلافاه ، وتجتنب أسباب الوقوع فيه . وكلمة مُتَّقٍ الأصل فيها مَنْ جعل بينه وبين الشر وقاية ، كما يقول سبحانه : { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } [ البقرة : 24 ] يعني : اجعلوا بينكم وبينها وقاية . ومن العجيب أن يقول سبحانه : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ البقرة : 194 ] ويقول { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } [ البقرة : 24 ] والمعنى : اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله القهرية وقايةً لأنكم لا تتحمّلون صفات قَهْره ، والنار جُنْد من جنود الله في صفات جلاله ، فكأنه تعالى قال : اتقوا جنود صفات الجلال من الله . وقوله تعالى : { كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً … } [ الفرقان : 15 ] أي : جزاءً لما قدَّموا ، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] فهذا تعليلُ ما هم فيه من النعيم : أنهم كثيراً ما تَعِبُوا ، واضطهدوا وعُذِّبوا ، وجزاء من عُذِّب في ديننا أن نُسعده الآن في الآخرة . { وَمَصِيراً } [ الفرقان : 15 ] أي : يصيرون إليه ، إذن : لا تنظر إلى ما أنت فيه الآن ، لكن انظر إلى ما تصير إليه حَتْماً ، وتأمل وجودك في الدنيا ، وأنه موقوت مظنون ، ووجودك في الآخرة وأنه باقٍ دائم لا ينتهي ، لذلك يقولون : إياك أنْ تدخل مدخلاً لا تعرف كيفية الخروج منه . ثم يقول الحق سبحانه : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ … } .