Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 21-21)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واللقاء : يعني البعث ، وقد آمنا بالله غَيْباً ، وفي الآخرة نؤمن به تعالى مَشْهداً { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ … } [ غافر : 16 ] حتى مَنْ لم يؤمن في الدنيا سيؤمن في الآخرة . لذلك يقول سبحانه في موضع آخر : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . ويا ليته جاء فلم يجد عمله ، المصيبة أنه وجد عمله كاملاً ، ووجد الله تعالى يحاسبه ويُجازيه ، ولم يكن هذا كله على باله في الدنيا لذلك يُفَاجأ به الآن . وقوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا … } [ الفرقان : 21 ] يعني : لا ينتظرونه ولا يؤمنون به لذلك لم يستعدوا له ، لماذا ؟ لأنهم آثروا عافية العاجلة على عافية الآجلة ، ورأوْا أمامهم شهواتٍ ومُتَعاً لم يصبروا عليها ، وغفلوا عن الغاية الأخيرة . ما هو اللقاء ؟ اللقاء يعني الوَصْل والمقابلة ، لكن كيف يتم الوَصْل والمقابلة بين الحق - تبارك وتعالى - وبين الخَلْق - وهذه من المسائل التي كَثُر فيها الجدال ، وحدثت فيها ضجّة شككتْ المسلمين في كثير من القضايا . قالوا : اللقاء يقتضي أن يكون الله تعالى مُجسّماً وهذا ممنوع ، وقال آخرون : ليس بالضرورة أن يكون اللقاء وَصْلاً ، فقد يكون مجردَ الرؤية لأن رؤية العَيْن للرب ليست لقاء ، وهذا قول أهل السنة . أما المعتزلة فقد نفَوْا حتى الرؤية ، فقال : لا يلقونه وَصْلاً ولا رؤية ، لأن الرائي يحدد المرئي ، وهذا مُحَال على الله عز وجل . ونقول للمعتزلة : أنتم تأخذون المسائل بالنسبة لله ، كما تأخذونها بالنسبة لمخلوقات الله ، لماذا لا تأخذون كل شيء بالنسبة لله تعالى في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] فإذا كان لكم ببعض لقاء يقتضي الوَصْل ، فلله تعالى لقاء لا يقتضي الوصل ، وإذا كانت الرؤية تحدد فلله تعالى رؤية لا تحدد . إن لك سَمْعاً ولله سمع أسمعُك كسمع الله عز وجل ؟ إذن . لماذا تريد أن يكون لقاء الله كلقائك يقتضي تجسُّداً ، أو رؤيته كرؤيتك ؟ لذلك في قصة رؤية موسى عليه السلام لربه عز وجل ، ماذا قال موسى ؟ قال : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ … } [ الأعراف : 143 ] فطلب من ربه أن يُريه لأنه لا يستطيع ذلك بذاته ، ولا يصلح لهذه الرؤية ، ألا أن يُريه الله ويطلعه ، فالمسألة ليست من جهة المرئيّ ، إنما من جهة الرائي . لكن هل قرَّعه الله على طلبه هذا وقال عنه : استكبر وعتا عُتُواً كبيراً كما قال هنا ؟ لا إنما قال له : { لَن تَرَانِي … } [ الأعراف : 143 ] ولم يقُلْ سبحانه : لن أُرَى ، وفرْق بين العبارتين . فقوله : { لَن تَرَانِي … } [ الأعراف : 143 ] المنع هنا ليس من المرئيّ بل المنع من الرائي لذلك أعطاه ربه عز وجل الدليل : { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي … } [ الأعراف : 143 ] يعني : أأنت أقوى أم الجبل ؟ { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً … } [ الأعراف : 143 ] . ولاحظ : { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ … } [ الأعراف : 143 ] كلمة تجلى أي : أن الله تعالى يتجلى على بعض خَلْقه ، لكن أيصبرون على هذا التجلي ؟ وليس الجبل أكرم عند الله من الإنسان الذي سخّر اللهُ له الجبل وكلّ شيء في الوجود . إذن : فالإنسان هو الأكرم ، لكن تكوينه وطبيعته لا تصلح لهذه الرؤية ، وليس لديه الاستعداد لتلقّي الأنوار الإلهية ذلك لأن الله تعالى خلقه للأرض . أما في الآخرة فالأمر مختلف لذلك سيُعدِّل الله هذا الخلق بحيث تتغير حقائقه ويمكنه أن يرى ، وإذا كان موسى - عليه السلام - قد صُعِق لرؤية المتجلَّى عليه وهو الجبل ، فكيف به إذا رأى المتجلِّي عز وجل ؟ لذلك ، كان من نعمة الله تعالى على عباده في الآخرة : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . وقال عن الكفار : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] إذن : ما يُميِّز المؤمنين عن الكافرين أنهم لا يُحجبون عن رؤية ربهم عز وجل بعد أنْ تغيَّر تكوينهم الأخْروي ، فأصبحوا قادرين على رؤية ما لم يَرَوْه في الدنيا . وإذا كان البشر الآن بتقدّم العلم يصنعون لضعاف البصر ما يُزِيد من بصرهم ورؤيتهم ، فلماذا نستبعد هذا بالنسبة لله تعالى ؟ لذلك ، تجد المسرفين على أنفسهم يجادلونك بما يريحهم ، فتراهم يُنكِرون البعث ، ويُبعِدون هذه الفكرة عن أنفسهم لأنهم يعلمون سوء عاقبتهم إنْ أيقنُوا بالبعث واعترفوا به . ومن المسرفين على أنفسهم حتى مؤمنون بإله ، يقول أحدهم : ما دام أن الله تعالى قدَّر عليَّ المعصية ، فلماذا يُحاسبني عليها ؟ ونعجب لأنهم لم يذكروا المقابل ولم يقولوا : ما دام قد قدَّر علينا الطاعة ، فلماذا يثيبنا عليها ؟ إذن : لم يقفوا الوقفة العقلية السليمة لأن الأولى ستجرُّ عليهم الشر فذكروها ، أما الأخرى فخير يُسَاق إليهم لذلك غفلوا عن ذِكْرها . وقولهم : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا … } [ الفرقان : 21 ] وهذا يدلّ على تكبُّرهم واعتراضهم على كَوْن الرسول بَشَراً ، وفي موضع آخر قالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا … } [ التغابن : 6 ] . إذن : كل ما يغيظهم أن يكون الرسول بشراً ، وهذا الاستدراك يدلُّ على غبائهم ، فلو جاء الرسول ملَكاً ما صَحَّ أن يكون لهم قدوة ، وما جاء الرسول إلا ليكون قُدْوةً ومُعلِّماً للمنهج وأُسْوة سلوك ، ولو جاء ملَكاً لأمكنه نعم أنْ يُعلِّمنا منهج الله ، لكن لا يصح أنْ يكون لنا أُسْوة سلوك ، فلو أمرك بشيء وهو مَلَك لَكان لك أنْ تعترض عليه تقول : أنت مَلَكٌ تقدر على ذلك ، أمَّا أنا فبشر لا أقدر عليه . فالحق سبحانه يقول : لاحظوا أن للرسل مهمتين : مهمةَ البلاغ ، ومهمة الأُسْوة السلوكية ، فلو أنهم كانوا من غير طبيعة البشر لتأتّى لهم البلاغ ، لكن لا يتأتى لهم أن يكونوا قُدْوة ونموذجاً يُحتذى . ولو جاء الرسول ملَكَا على حقيقته ما رأيتموه ، ولاحتجتم له على صورة بشرية ، وساعتها لن تعرفوا أهو ملَكَ أم بشر ، إذن ، لا بُدَّ أن تعود المسألة إلى أن يكون بشراً ، لذلك يقول سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] . ومسألة نزول الملائكة مع الرسول من الاقتراحات التي اقترحها الكفار على رسول الله ليطلبها من ربه ، وهذا يعني أنهم يريدون دليلَ تصديق على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وسبق أنْ جاءهم رسول الله بمعجزة من جنس ما نبغُوا فيه وعجزوا أنْ يُجَاروه فيها ، ليثبت أن ذلك جاء من عند ربهم القوي ، ومعنى هذه المعجزة أنها تقوم مقام قوله صدق عبدي في كل ما يُبلِّغ عني . وما دامت المعجزة قد جاءتْ بتصديق الرسول ، فهل هناك معجزة أَوْلَى من معجزة ؟ لقد كانت معجزة القرآن كافية لتقوم دليلاً على صِدْق الرسول في البلاغ عن الله ، وأيضاً جاءكم بغيبيّات لا يمكن أن يطلع عليها إنسان ، لا في القديم الذي حدث قبل أنْ يُولدَ ، ولا في الحديث الذي سيكون بعد أنْ يُولد . إذن : فدليل صدق الرسول قائم ، فما الذي دعاكم إلى اقتراح معجزات أخرى ؟ وقولهم : { أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا … } [ الفرقان : 21 ] والله ، لو كان إله يُرَى لكم ما صَحَّ أن يكون إلهاً لأن المرئي مُحَاطٌ بحدقة الرائي ، وما دام أحاط به فهو - إذن - محدود ، ومحدوديته تنافي ألوهيته . وإلاَّ فالمعاني التي تختلج بها النفس الإنسانية مثل الحق والعدل الذي يتحدث عنه الناس وينشدونه ويتعصَّبون له ، ويتهافتون عليه لحلِّ مشاكلهم وتيسير حياتهم : أتدرك هذه المعاني وأمثالها بالحواس ؟ كيف تطلب أن تدرك خالقها عز وجل بالحواسّ ؟ لذلك يختم الحق سبحانه هذه المسألة بقوله : { لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيرا } [ الفرقان : 21 ] استكبر وتكبَّر : حاول أن يجعل نفسه فوق قَدْره ، وكلُّ إنسان مِنّا له قَدْر محدود . ومن هنا جاء القول المأثور : " رَحِمَ الله امرءً عرف قدر نفسه " . فلماذا إذن يتكبّر الإنسان ؟ لو أنك إنسان سوىّ فإنك تسعد حين نمنع عنك مَنْ يسرقك ، أو ينظر إلى محارمك أو يعتدي عليك ، فلماذا تغضب حينما نمنعك عن مثل هذا ؟ النظرة العقلية أن تقارن بين مَا لك ومَا عليك ، لقد منعنا يدك - وهي واحدة - أنْ تسرق ، ومقابل ذلك منعنا عنك جميع أيدي الناس أن تسرق منك ، منعنا عينك أن تمتد إلى محارم الآخرين ، ومنعنا جميع الأَعْيُن أنْ تمتدّ إلى محارمك فلماذا إذن تفرح لهذه وتغضب من هذه ؟ كان يجب عليك أن تحكم بنفس المنطق ، فإنْ أحببتَ ما كان لك وكرهتَ ما كان لغيرك فقد جانبتَ الصواب وخالفتَ العدالة . ومن استكبارهم مواجهتهم لرسول الله في بداية دعوته وقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] إذن : القرآن لا غبارَ عليه ، وهذا حكم واقعي منهم لأنهم أمة بلاغة وفصاحة ، والقرآن في أَرْقَى مراتب الفصاحة والبيان ، إنما الذي وقف في حُلُوقهم أن يكون الرسول رجلاً من عامة الناس ، يريدونه عظيماً في نظرهم ، حتى إذا ما اتبعوه كان له حيثية تدعو إلى اتباعه . إذن : الاستكبار أن تستكبر أن تكون تابعاً لمنْ تراه دونك ، ونحن ننكر هذا لأنك لم تَرَ محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يقوم بالرسالة أنه دونك ، بل كنت تضعه في المكان الأعلى ، وتُسمِّيه الصادق الأمين ، فمتى إذن جعلْتَه دونك ؟ إنها الهبة التي وهبه الله ، إنها الرسالة التي جعلتك تأخذ منه ما كنتَ تعطيه قبل أن يكون رسولاً . وهل سبق لكم أَنْ سمعتم عن رسول جاء معه ربه عَزَّ وجَلَّ يقول لقومه : هذا رسولي ؟ وما دام أن الله تعالى سيواجهكم هذه المواجهة فلا داعيَ إذن للرسول لأن الله تعالى سيخاطبكم بالتكليف مباشرة وتنتهي المسألة . ومعلوم أن هذا الأمر لم يحدث ، فأنتم تطلبون شيئاً لم تسمعوا به ، وهذا دليل على تلكؤكم واستكباركم عن قبول الإيمان فجئتم بشيء مستحيل . إذن : المسألة من الكفار تلكؤٌ وعناد واستكبار عن قبول الحق الواضح ، وقد سبق أن اقترحوا مثل هذه الآيات والمعجزات ، فلما أجابهم الله كذّبوا ، مع أن الآيات والمعجزات ليست باقتراح المرسل إليهم ، إنما تفضُّل من الله تعالى واهب هذه الرسالة . والاستكبار مادته الكاف والباء والراء . وتأتي بمعانٍ عِدَّة : تقول كَبَرَ يكْبَر أي : في عمره وحجمه ، وكَبُر يكبُر أي : عَظُم في ذاته ، ومنها قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ … } [ الكهف : 5 ] . وتكبَّر : أظهر صفة الكبرياء للناس ، واستكبر : إذا لم يكُنْ عنده مؤهلات الكِبر ، ومع ذلك يطلب أن يكون كبيراً . فالمعنى { ٱسْتَكْبَرُواْ … } [ الفرقان : 21 ] ليس في حقيقة تكوينهم إنما { ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ … } [ الفرقان : 21 ] في أنهم يتبعُون الرسول ، أي : أنها كبيرة عليهم أن يكونوا تابعين لرجل يروْنَ غيره أغنى منه أو أحسن منه على زعمهم . ونرى مثلاً أحد الفتوات الذي يخضع له الجميع إذا ما رأى مَنْ هو أقوى منه انكمشَ أمامه وتواضع لأنه يستكبر بلا رصيد وبشيء ليس ذاتياً فيه … إذن : المتكبر بلا رصيد غافل عن كبرياء ربه ، ولو استشعر كبرياء الله عَزَّ وجَل لاستحَى أنْ يتكبّر . لذلك نرى أهل الطاعة والمعرفة دائماً منكسرين ، لماذا ؟ لأنهم دائماً مستشعرون كبرياءَ الله ، والإنسان لا يتفرعن إلا إذا رأى الجميع دونه ، وليس هناك مَنْ هو أكبر منه . فينبغي ألا يَتكبَّر الإنسان إلا بشيء ذاتي فيه لا يُسلَب منه ، فإن استكبرت بِغنَاك فربما افتقرتَ ، وإنِ استكبرتَ بقوتك فرُبّما أصابك المرض ، وإنِ استكبرتَ بعلمك لا تأمنْ أن يُسلبَ منك لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً . ومن لُطْف الله بالخَلْق ورحمته بهم أنْ يكون له وحده الكبرياء ، وله وحده سبحانه التكبُّر والعظمة ، ويعلنها الحق تبارك وتعالى : " الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته جهنم " . والحق - تبارك وتعالى - لا يجعلها جبروتاً على خَلْقه ، إنما يجعلها لهم رحمة لأن الخَلْق منهم الأقوياء والفُتوات والأغنياء … حين يعلمون أن لله تعالى الكبرياء المطلق يعرف كل منهم قدره ويرعى مساوى ، فالله هو المتكبر الوحيد ، ونحن جميعاً سواء . لذلك يقول أهل الريف اللي ملوش كبير يشتري له كبير وحين يكون في البلد كبير يخاف منه الجميع لا يجرؤ أحد أنْ يعتديَ على أحد في وجوده ، إنما إنْ فُقِد هذا الكبير فإن القوي يأكل الضعيف . إذن : فالكبرياء من صفات الجلال لله تعالى أنْ جعلها الله لنفع الخَلْق . ولو تصورنا التكبر مِمَّنْ يملك مؤهلاته ، كأن يكون قوياً ، أو يكون غنياً … إلخ فلا نتصور الكبر من الضعيف أو من الفقير لذلك جاء في الحديث : " أبغض ثلاثاً وبغضي لثلاث أشد ، أبغض الغني المتكبر وبُغضي للفقير المتكبر أشدّ ، وأبغض الفقير البخيل وبغضي للغني البخيل أشدّ ، وأبغض الشاب العاصي وبغضي للشيخ العاصي أشد " . وقوله تعالى : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] عتوا : بالغوا في الظلم والتحدي وتجاوزوا الحدود ، وكأن هذا غير كافٍ في وصفهم ، فأكّد العُتُو بالمصدر عتواً ثم وصف المصدر أيضاً { عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] لماذا كل هذه المبالغة في التعبير ؟ قالوا : لأنهم ما عَتَوْا بعضهم على بعض ، إنما يتعاتون على رسول الله ، بل وعلى الله عز وجل لذلك استحقُّوا هذا الوصف وهذه المبالغة . والعاتي الذي بلغ في الظُّلم الحدَّ مثل الطاغوت الذي إنْ خاف الناس منه انتفش ، وتمادى وازداد قوة . ومن ذلك قوله تعالى : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] ومعلوم أن الكِبَر ضعف ، كما قال سبحانه : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً … } [ الروم : 54 ] فكيف - إذن - يصف الكبر بأنه عَاتٍ ؟ قالوا : العاتي هو القوي الجبار الذي لا يقدر أحد على صَدِّه أو رَفْع رأسه أمامه ، وكذلك الكِبَر على ضَعْفه ، إلا أنه لا توجد قوة تطغى عليه فتمنعه . ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ … } .