Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 23-23)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

حين تنظر في غير المؤمنين تجد من بينهم أهلاً للخير وعمل المعروف ، ومنهم أصحاب مَلَكات طيِّبة ، كالذين اجتمعوا في حلف الفضول لنصْرة المظلوم ، وكأهل الكرم وإطعام الطعام ، ومنهم مَنْ كانت له قِدْر عظيمة استظلْ رسول الله في ظلها يوم حر قائظ ، وهذا يعني أنها كانت كبيرة واسعة منصوبة وثابتة كالبناء ، كان يُطْعم منها الفقراء والمساكين ، وحتى الطير والوحوش ، وما زِلْنا حتى الآن نضرب المثل في الكرم بحاتم الطائي . وكان منهم مَنْ يصل الرحم ويغيث الملهوف … الخ . لكن هؤلاء وأمثالهم عملوا لجاه الدنيا ، ولم يكُنْ في بالهم إله يبتغون مرضاته ، والعامل يأخذ أجْره ممَّنْ عمل له ، كما جاء في الحديث القدسي : " فعلت ليقال ، وقد قيل " . والحق - تبارك وتعالى - يُوضِّح هذه المسألة في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . وقال تعالى أيضاً : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ … } [ إبراهيم : 18 ] . فقد عمل هؤلاء أعمالَ خير كثيرة ، لكن لم يكُنْ في بالهم الله ، إنما عملوا للإنسانية وللشهرة وليُقال عنهم لذلك نراهم في رفاهية من العيش وسَعة مُمتَّعين بألوان النعيم ، لماذا ؟ لأنهم أخذوا الأسباب المخلوقة لله تعالى ، ونفّذوها بدقة ، والله - تبارك وتعالى - لا يحرم عبده ثمرةَ مجهوده ، وإنْ كان كافراً ، فإنْ ترك العبدُ الأسبابَ وتكاسل حرَمه الله وإنْ كان مؤمناً . وفَرْق بين عطاءات الربوبية التي تشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي ، وبين عطاءات الألوهية . فمن الكفار مَنْ أحسن الأَخْذ بالأسباب ، فاخترعوا أشياء نفعتْ الإنسانية ، وأدوية عالجتْ كثيراً من الأمراض . ولا بُدَّ أن يكون لهم جزاء على هذا الخير ، وجزاؤهم أخذوه في الدنيا ذِكْراً وتكريماً وتخليداً لذِكْراهم ، وصُنِعت لهم التماثيل وأُعْطوا النياشين ، وأُلِّفتْ في سيرتهم الكتب ، كأن الله تعالى لم يجحدهم عملهم ، ولم يبخسهم حقهم . ألاَ ترى أن أبا لهب الذي وقف من رسول الله موقِفَ العداء حتى نزل فيه قوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [ المسد : 1 - 2 ] ومع ذلك يُخفِّف الله عنه العذاب لأنه أعتقَ جاريته ثويبة حينما بشَّرته بميلاد محمد بن عبد الله لأنه فرح بهذه البُشْرى وأسعده هذا الخبر . ومن العجيب أن هؤلاء يقفون عند صناعات البشر التي لا تعدو أن تكون تَرَفاً في الحياة ، فيُؤرِّخون لها ولأصحابها ، وينسون خالق الضروريات التي أعانتهم على الترقِّي في كماليات الحياة وترفها . وكلمة { هَبَآءً … } [ الفرقان : 23 ] : الأشياء تتبين للإنسان ، إما لأن حجمها كبير أو لأنها قريبة ، فإنْ كانت صغيرة الحجم عزَّتْ رؤيتها ، فمثلاً يمكنك رؤية طائر أو عصفور إنْ طار أمامك أو حتى دبور أو نحلة ، لكن لو طارتْ أمامك بعوضة لا تستطيع رؤيتها . إذن : الشيء يختفي عن النظر لأنه صغير التكوين ، لا تستطيع العين إدراكه لذلك اخترعوا المجاهر والتليسكوب . وقد يكون الشيء بعيداً عنك فلا تراه لبُعده عن مخروطية الضوء لأن الضوء يبدأ من نقطة ، ثم يتسع تدريجياً على شكل مخروط ، كما لو نظرتَ من ثُقْب الباب الذي قُطْره سنتيمتر فيمكن رؤية مساحة أوسع منه بكثير . إذن : إنْ أردتَ أن ترى الصغير تُكبِّره ، وإنْ أردتَ أنْ ترى البعيد تُقرِّبه . والهباء : هو الذرّات التي تراها في المخروط الضوئي حين ينفذ إلى حجرتك ، ولا تراها بالعين المجرّدة لدِقّتها ، وهذا الهباء الذي تراه في الضوء { هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] يعني : لا تستطيع أنْ تجمِّعه لأنه منتشر وغير ثابت ، فمهما أوقفتَ حركة الهواء تجدْه في الضوء يتحرك لِصِغَر حجمه . فإنْ قلتَ : نراهم الآن يصنعون فلاترَ لحجز هذا الهباء فتُجمّعه وتُنقِّي الهواء منه ، وهي على شكل مَسامّ أسفنجية يعْلَق بها الهباء ، فيمكن تجميعه . نقول : حتى مع وجود هذه الفلاتر ، فإنها تجمع على قَدْر دِقّة المسامّ ، وتحجز على قَدْرها ، وعلى فَرْض أنك جمعتَه في هذا الفلتر ، ثم أفرغته وقُلْت لي : هذا هو الهباء ، نقول لك : أتستطيع أنْ ترد كل ذرة منها إلى أصلها الذي طارتْ منه ؟