Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 183-183)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

البخس : النقص ، ومعنى { أَشْيَآءَهُمْ … } [ الشعراء : 183 ] حقوقهم إذن : فالنقص من حَقِّ الغير ذنب ، وقد يكون البخس بأخْذ الشيء كله غَصْباً ، أو بالتصرف فيه دون أمر صاحبه ، أو على وجه لا يرضاه . وهذا كله داخل في { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ … } [ الشعراء : 183 ] كل ما ينقص الحق بأخذه بإنقاص . أو غَصْب أو تصرّف على غير إرادة صاحبه فهو بَخْسٌ للشيء . فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أنْ تعتدي عليه ، فالزكاة مثلاً حينما يقول ربك - عَزَّ وجَلَّ - : { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24 - 25 ] . فما دام قد قيَّده الشرع ، فلا تبخس أنت حَقَّ الفقير ، لأنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله الله من مالك للفقير ، تجهد أنه وُضِع بحكمة تُراعِي مدى حركة المموِّل ، وما بذل من جهد ونفقات في سبيل تنمية ماله ، حتى وجبتْ فيه الزكاة . فكلما زادتْ حركتك قَلَّ مقدار الزكاة في مالك ، فمثلاً الأرض التي تُسْقى بماء المطر فيها العُشْر ، والتي تُسْقى بآلة ونفقات فيها نصف العشر ، وفي عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر قال رُبْع العُشْر ، ذلك لأن الشارع الحكيم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير الأموال ، حتى لا يأتي مَنْ يقول : كيف أسعى ويأخذ غيري ثمرة سعيي ؟ والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء ، فإنما يحمي به الفقراء والأغنياء على حَدٍّ سواء . وقد حدَّد الشارع هذا الحق ، حتى لا تزهد في العطاء ، خاصة في الزكاة . إن منهج الله يريد أنْ يُصوِّب حركة الحياة من الأحياء ، يريد ألاَّ يجري دم في جسد إلا بخروج عَرق من هذا الجسد ، وألا يدخل دم في جسد من عرق سواه ، وإلاَّ فسد المجتمع ، وضَنَّ كل قادر على الحركة بحركته لأنه لا يطمئن إلى ثمار حركته أنها لا تعود عليه ، أو أن غيره سيغتصبها منه بأيِّ لون من ألوان الاغتصاب . عندها يفسد المجتمع لأن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد ، والآخذ سيتعوَّد البطالة والكسل والخمول ، ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء من عمل غيره ، وبمرور الوقت يصعب عليه العمل ، وتثقُل عليه الحركة ، فيركَنُ إلى ما نُسمِّيه بلطجي في الحياة ، يعيش عالة على غيره . إذن : الحق - تبارك وتعالى - يريد أن يُطمئِن كل إنسان على حركته في الحياة وثمرة سَعْيه ، فلا يتلصص أحد على ثمرة حياة الآخر لأنه إنْ كان عاجزاً عن الحركة فقد ضمن له ربُّه حقاً في حركة الآخرين تأتيه إلى باب بيته ، سواء أكانت زكاةً أم كانت صدقة وبذلك تسْلَم حركة الحياة للجميع . لذلك أراد - سبحانه وتعالى - أن يُعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلامة التعامل بين الناس : فإنْ كِلْتَ لغيرك فوفِّ الكيل ، وإنْ وزنتَ فوَفِّ الميزان ، واجعله بالقسطاس المستقيم ، ولا تبخس الناس حقوقهم بأي صورة من الصور . ولا يقتصر الأمر على هذه المسائل فحسب ، إنما هي نماذج للتعامل ، تستطيع القياس عليها في كل أمور الحياة فيما يُقَاس وفيما يُعَدُّ ، في الأعمال وفي الصناعات … إلخ . إذن : فاحذر أنْ تتلصَّص على حقوق الآخرين ، أو أن تبخسها ، بأيِّ نوع من أنواع التسلُّط : غَصْباً أو اختطافاً أو سرقةً أو اختلاساً أو رِشْوة … إلخ . وقلنا : إن السرقة أن تأخذ شيئاً من حِرْزه في غير وجود صاحبه ، والخطف يكون صاحب الشيء موجوداً ، لكنك تأخذه خَطْفاً وتفرّ به قبل أن يُمسك بك ، فإنْ أمسك بك فغالبْتَه وأخذتها رَغماً عنه فهي غَصْب ، أما الاختلاس فأنْ تأخذ من مالٍ أنت مؤتمَنٌ عليه ، ما لا يحقَّ لك أخْذه . فإذا علم كُلُّ متحرك في الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه ، وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعاً إنْ لم يعمل وهو قادر دبَّتْ الحركة في كل الأحياء ، وهذا ما يريده الله تعالى لخليفته في الأرض خاصة ، وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي نفكر به ، والطاقة التي نعمل بها ، والمادة التي نستعين بها ، فكلُّ ما علينا أن نُوظّف هذه الإمكانات التي خلقها الله توظيفاً مثمراً . ثم إنْ كانت الزكاة كحقِّ معلومة محددة ، فهناك حَقٌّ آخر غير مُحَّدد ، في قوله سبحانه : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] ولم يقل معلوم لأن المراد هنا الصدقة المطلقة ، وقد تركها الحق - تبارك وتعالى - ولم يُقيِّدها ليترك الباب مفتوحاً أمام أريحية المعطي ، ومدى كرمه وإحسانه لذلك جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن صفات المحسنين : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 15 - 19 ] . ولأن الحق هنا تفضُّل وزيادة تركه الشارع الحكيم دون تحديد . وعجيب أن نرى أصحاب الأموال حين يُخرِج أحدهم رُبْع العشر مثلاً من ماله ، لا ينظر إلى ما تبقّى له من رأس المال ، وهي نسبة 97 . 5 % ، وينظر إلى حَقِّ الفقير وهو يسير 2 . 5 % . فنراه يحتال عليه فيُؤثِر به أقاربه أو معارفه ، أو يضعه بحيث يعفيه من حق آخر ، كالذي يعطي زكاته للخادمة مثلاً ، ليُرضِي أمها حتى لا تأخذها من يده ، ومنهم مَنْ يضع أموال الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى وهذا كله لا يجوز لأن مال الزكاة حَقٌّ للمستحقين المعروفين نصاً في كتاب الله ، ولا يصح أنْ يُوجِّه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبداً . ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ الشعراء : 183 ] عثا : أي أفسد . فالمعنى : لا تُفسِدوا في الأرض ، فلماذا كرَّر الإفساد مرة أخرى فقال { مُفْسِدِينَ } [ الشعراء : 183 ] ؟ قالوا : المراد : لا تعثَوْا في الأرض حالةَ كونِكم مفسدين ، أو في نيتكم الإفساد . وليس في الآية تكرار لأنه فرَّق بين إفساد شيء وأنت لا تقصد إفساده ، إنما حركتك في الحياة أفسدتْه ، وبين أنْ تُفسد عن قصد وعَمْد للإفساد ، حتى لا نمنع العقول أن تفكر وتُجرِّبَ لتصلَ إلى الأفضل ، وتُثري حركة الحياة ، فما دُمْتَ قد قصدتَ الصلاح ، فلا عليك إنْ أخطأتَ لأن ربك - عَزَّ وجَلَّ - يتولى تصحيح هذا الخطأ ، بل ويُعوِّضك عنه ، فمَنِ اجتهد فأخطأ فله أجر ، ومَنِ اجتهد فأصاب فله أجران . إذن : المعنى : لا تُفسِدوا في الأرض وأنتم تقصدون الإفساد ، لكن فكيف نُفسِد الأرض ؟ إن إفساد الأرض يعني إفسادَ المتحرك عليها لأن الأرض خُلقَتْ للإنسان { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] . وقد خلقها الله تعالى على هيئة الصلاح ، والإنسان هو الذي يُفسِدها ، بدليل أنك لا تجد الفساد إلا فيما للإنسان دَخْل فيه ، أما مَا لا تطوله يده ، فيظل على صلاحه ، وعلى استقامته وسلامته . والإنسان الذي خلقه الله وجعله خليفة له في أرضه طُلب منه عمارة هذه الأرض وزيادة صلاحها ، تحقيقاً لقول ربه عَزَّ وجَلَّ : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا … } [ هود : 61 ] . ولا يصلح أن نستعمر الأرض وهي خراب ، فإذا ما كَثُر النسل لا يقابل زيادة في استثمار الأرض ، فتحدث الأزمات ، ولو أن استثمار الأرض وإصلاحها سار مع زيادة النسل في خطين متوازيين لما شعر الناس بالحاجة والضيق ، ولما أحاطت بهم الأزمات . والآن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلاً تجد المزارع في الصحراء ، وتجد القرى الجديدة تحولت فيها الأرض الجرداء إلى خضرة ونماء ، فأين كانت هذه الثورة ؟ لقد كنا كُسالى وفي غفلة حتى عَضَّنا الجوع ، وضاقت بنا الأرض الخضراء في الوادي والدلتا . وإذا لم يُصلِح الإنسان في الأرض فلا أقلَّ من أنْ يتركها على حالها الذي خلقها الله عليه . لكن رأينا الإنسان يُفسد الماء ويُلوثه حين يصرف فيه مُخلَّفاته ويُفسد الهواء بعادم السيارات والمصانع ، ويُفسِد التربة بالكيماويات والمبيدات ، وكل هذا الإفساد خروج عن الطبيعة الصافية التي خلقها الله لنا ذلك لأننا نظرنا إلى النفع العاجل ، وأغفلنا الضرر الآجل . لقد خلق الله لنا وسائل الركوب والانتقال ، وجعلها آمنة لا ضررَ منها : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً … } [ النحل : 8 ] . وقال : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ … } [ النحل : 7 ] نعم ، وسائل النقل الحديث أسرع ، وأراحتْ هذه المواشي ، لكنها أتعبتْ الإنسان الذي خلق الله الكون كله لراحته . فترى الرجل يركب سيارته وكل هَمِّه أنْ يُسرع بها دون أنْ يهتم بضبطها وصيانتها ، فينطلق بها مُخلِّفاً سحابة من الدخان السَّام الذي يؤذي الناس ، أما هو فغير مكترث بشيء لأن الدخان خلفه لا يشعر به . لكن ، احذر جيداً ، إن ربك - عز وجل - قيوم لا يغفل ولا ينام ، وكما تدين تُدان في نفسك ، أو في أولادك . كذلك قبل أن نركب السيارات ونُسرِع بها يجب أنْ نُمهِّد لها الطرق حتى لا تثير الغبار في وجوه الناس ، وتؤذي تنفسهم ، بل وتؤذي الزرع أيضاً ، كل هذه وُجوه للإفساد في الأرض لأننا ندرس عاجلَ النفع ولا ندرس آجل الضرر . وعليك حين تجتهد أنْ تجتهد بمقدِّمات سليمة ، لتصل إلى النتائج السليمة ، ولا تكُنْ من المفسدين في الأرض . ومن الإفساد في الأرض قَطْع الطريق ، وهو أن المتلصِّص يقيم في مكانه يرصُد ضحيته إلى أن تمر به ، والإغارة وهي أنْ يذهب المغير إلى المغَار عليه في مَأْمنه ، فيسلبه ماله . ومن الإفساد في الأرض الرِّشْوة ، وهي من أنكَى النكبات التي بُلِي بها المجتمع ، وهي تُولِّد التسيّب وعدم الانضباط ، فحين ترى غيرك يستغلك ، ويستحلّ مالك دون حق ، تعامله وتعامل غيره نفس المعاملة ، فتصير الأمور في الأجهزة والمصالح إلى فوضى لا يعلم مداها إلا الله . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ … } .