Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 60-60)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أَمَّنْ … } [ النمل : 60 ] هذا استفهام آخر ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - بعد أن كتب الهزيمة على الكافرين والنصر للمؤمنين أراد أنْ يُربِّب في النفس الإيمان بالله ، وأن تأخذ من نصر الله تعالى للمؤمنين خميرة إيمانية ، ومواجيد جديدة تظل شحنة قوية تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على استعداد للتصدي لأعداء الدعوة والمناهضين لها . يقول سبحانه : { أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ … } [ النمل : 60 ] . إذن : المسألة لا تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنون على الكافرين ، فهناك في خلق الله ما هو أعظم من ذلك ، فلو سألتَهم : مَنْ خلق السماوات والأرض يقولون : الله ولئن سألتهم : مَنْ خلقهم يقولون : الله ، فهذه مسائل لا يستطيعون إنكارها ، فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لهم : آلله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء … أم ما تشركون ؟ وما دام أن الله تعالى ادَّعى مسألة الخَلْق لنفسه سبحانه ، ولم يَقُمْ لهذه الدعوى منازع ، فقد ثبتتْ له سبحانه إلى أنْ يدَّعيها غيره { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ … } [ النمل : 60 ] فإنْ كان هناك إله آخر خلق الخَلْق فأين هو : إما أنه لم يَدْر بهذه الدعوى ، أو دَرَى بها وجَبُن عن المواجهة ، وفي كلتا الحالتين لا يصلح إلهاً ، وإلا فليأت هو الآخر بخَلْق ومعجزات أعظم مما رأينا . فإذا قال الله تعالى أنا الله ، ولا إله غيري ، والخَلْق كله بسمائه وأرضه صنعتي ، ولم يوجد معارض ، فقد ثبتت له القضية لذلك يقول سبحانه : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ … } [ آل عمران : 18 ] . فقضية الوحدانية شهد الله أولاً بها لنفسه ، ثم شهد بها الملائكة وأولو العلم من الخَلْق . ويقول سبحانه في تأكيد هذا المعنى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] . أي : لاجتمع هؤلاء الآلهة ، وثاروا على الإله الذي أخذ منهم مُلْكهم ، وادعاه لنفسه ، أو لذهبوا إليه ليتقرَّبوا منه ويتودّدوا إليه . وقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [ النمل : 60 ] السماء : كلُّ ما علاك فأظلَّك ، والماء معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علانا ، أو أن الإنزال يعني إرادة الكون ، وإرادة الكون في كل كائن تكون من السماء ، ألاَ ترى قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] . وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ … } [ الحديد : 25 ] ومعلوم أن الحديد يأتي من الأرض ، لكن إرادة كونه تأتي من السماء . ثم يقول سبحانه : { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ . . } [ النمل : 60 ] للماء فوائد كثيرة في حياتنا ، بل هو قِوَام الحياة لذلك اقتصرتْ الآية على ذكْر الحدائق لأنها قوام حياة الإنسان في الأكل والشرب . فإنْ قُلْتَ : نحن نعتبر الآن الحدائق الجميلة من باب الكماليات ، وليس بها مُقوِّمات حياتنا . نقول : نعم هي كذلك الآن ، لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور : حديقة ، أو حائط . وقال { ذَاتَ بَهْجَةٍ … } [ النمل : 60 ] مع أنك لو نظرتَ إلى القمح مثلاً وهو عَصَب القوت لوجدته أقل جمالاً من الورد والياسمين والفُل مثلاً ، وكأن ربك - عز وجل - يقول لك : لقد تكفلتُ لك بالكماليات وبالجماليات ، فمن باب أَوْلَى أوفر لك الضروريات . والحق - تبارك وتعالى - يريد أن يرتقي بِذوْق عباده وبمشاعرهم ، واقرأ مثلاً قوله تعالى : { ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ … } [ الأنعام : 99 ] يعني : قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في جمالها ومنظرها البديع ، وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صُنْع الله . أَلاَ ترى أن الله تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها ، ولم يُبح لك الأكل إلاّ مما تملك ؟ لذلك قال : { ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ … } [ الأنعام : 99 ] فإنْ لم تكونوا تملكونه ، فكفاكم التمتُّع بالنظر إليه . ومن هذا الارتقاء الجمالي قوله تعالى بعد أنْ حدَّثنا عن الضروريات في الأنعام : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [ النحل : 6 ] . وقال : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً … } [ النحل : 8 ] . فأعطانا ربنا - عز وجل - ضروريات الحياة ، وأعطانا كمالياتها وجمالياتها . وتأمل دقة الأسلوب في { أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } [ النمل : 60 ] فالضمير في { خَلَقَ } ضمير الغائب هو يعود على الله عز وجل ، وكذلك في وَأَنزَلَ أما في فَأَنْبَتْنَا فقد عدل عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم نحن الدال على التعظيم ، فلماذا ؟ قالوا : لأن نِعَم الله فيها أشياء لا دخْل للإنسان فيها كالخَلْق وإنزال المطر ، ومثل هذه المسائل لا شبهةَ لاشتراك الإنسان فيها ، وهناك أشياء للإنسان دَخْلٌ فيها كالزرع والإنبات ، فهو الذي يحرث ويزرع ويسقي … الخ مما يُوحِي بأن الإنسان هو الذي يُنبت النبات ، فأراد سبحانه أنْ يُزيل هذا التوهم ، فنسب الإنبات صراحة إليه - عز وجل - ليزيل هذه الشبهة . وربك - سبحانه وتعالى - يحترم فعْلَك ، ويذكر لك سَعْيك ، فيقول : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 63 - 64 ] نعم لك عمل وسعي في هذه المسألة ، لكنك استخدمتَ الأرض المخلوقة لله ، وآلة الحديد المخلوقة لله ، والبذور المخلوقة لله ، والماء المخلوق لله ، أما مسألة الإنبات نفسها فلا دَخْلَ لك بها ، فلا تَقُلْ زرعت لأننا نحن الزارعون حقيقة ، لكن قُلْ : حرثتُ وسقيتُ . لذلك تجد الرد في آخر الآية نافياً لأيِّ شبهة في أن لك دَخْلاً في مسألة الزرع : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً … } [ الواقعة : 65 ] وأكّد الفعل بلام التوكيد لينفي هذه الشبهة . على خلاف الكلام عن الماء ، حيث لا شبهة لك فيه ، فيأتي نفس الفعل ، لكن بدون لام التوكيد : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [ الواقعة : 68 - 70 ] . ومعنى : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] العدل معلوم أنه صفة مدح فساعةَ تسمع { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] قد تظن أنها صفة طيبة فيهم ، لكن لا بُدَّ في مثل هذا اللفظ من تدقيق لأنه يحمل معاني كثيرة . نقول : عدلَ في كذا يعني : أنصف ، وعدل إلى كذا يعني : مال إليه ، وعدل عن كذا : يعني : تركه وانصرف عنه ، وعدل بكذا ، يعني : سوَّى . فالمعنى هنا { يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] عنه ، ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب ، إنما يعدلون عنه إلى غيره ، ويسوّون به غيره ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] . أي : يسوُّونه سبحانه بغيره . ثم يقول الحق سبحانه : { أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ … } .