Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 61-61)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما تكلم الحق سبحانه في الآية السابقة عن السماوات والأرض أتى بأشياء مشتركة بينهما ، فالسماء ينزل منها الماء ، والأرض تستقبل الماء ، وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة . أما في هذه الآية ، فالكلام عن الأرض ، لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الأرض ، { أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً … } [ النمل : 61 ] معنى : قراراً أي استقراراً ، حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة تصلح لأنْ يستقرَّ عليها الإنسان . { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [ النمل : 61 ] الماء ينزل من السماء وينتفع به مَنْ سقط عليه مباشرة ، أما ما ينزل على الجبال فيجتمع في الوديان وتُصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط ، ومن ماء المطر ما ينساب في مَجَارٍ تُسمَّى الأنهار . وتستطيع أنْ تُفرِّق بين النهر والقناة الصناعية ، فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال ، ومن أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الأرض الذي يستطيع الماء أنْ يشقَّ مجراه فيه فتراه ملتوياً متعرجاً ، يدور حول الجبال أو الصخور ليشقَّ مجراه . أما القناة الصناعية ، فتراها على هيئة الاستقامة ، إلا إذا اعترض طريق حفرها مثلاً أحد أصحاب النفوذ ، فيحملهم على تغيير المسار والانحراف به ليتفادى المرور بأرضه . وتستطيع أنْ تلاحظ هذه الظاهرة إذا تبولْتَ في أرض رملية ونظرتَ إلى مجرى البول ، فتراه يسير متعرجاً حسب طبيعة الأرض التي يمرُّ بها . { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } [ النمل : 61 ] الرواسي : هي الجبال الثابتة الراسية ، وفي موضع آخر بيَّن سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال : { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] . فالحكمة من خَلْق الجبال تثبيت الأرض حتى لا تضطرب ، ولو أنها خُلِقَتْ على هيئة الثبات والاستقرار لما احتاجتْ إلى الجبال ، إذن : هي مخلوقة على هيئة الحركة ، ولا بُدَّ لها من مُثقِّلات . ولا تقتصر الحكمة من خَلْق الجبال على تثبيت الأرض ، إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى : { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [ النازعات : 32ـ33 ] . فكيف تكون الجبال متاعاً للإنسان وللحيوان ؟ نعم ، هي متاع لأنها مخزن مياه ، حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال ، إما في الأنهار ، وإما في الشلالات ، وخلف السدود بين الوديان ، أو في العيون والآبار مما امتصته الأرض . وكما أن الجبال هي مخازن للمياه ، هي أيضاً مخازن للخصوبة التي تمدُّ الأرض الزراعية عاماً بعد عام بقدر ، بحيث تستمر خصوبة الأرض ، وسبق أنْ تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تُفتِّت الطبقة العليا من الصخور ، فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر ، وتختلط بالتربة الزراعية فتزيد من خصوبتها . ولولا صلابة الجبال وتماسك صخورها لتفتتتْ في عدة سنوات ، ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد ذلك ، فهذه الظاهرة من علامات رحمة الله بخَلْقه لأنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما زاد السكان زادتْ الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة . وسبق أنْ قُلْنا : إنك حين تتأمل وضع الجبال مع الوديان تجد أن الجبل مُثلث قاعدته إلى أسفل ، وقمته إلى أعلى ، أما الوديان فعلى عكس الجبال ، فهي مثلث قاعدته إلى أعلى وقمته إلى أسفل ، وهكذا نرى أن كل زيادة من طَمْى الجبل والغِرْين الذي يتفتت منه يزيد في مساحة الوادي ، فتزداد الرقعة الخصبة كل عام مع زيادة السكان . لذلك يقول تعالى عن الجبال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 9 - 10 ] . فجعل الجبال الرواسي هي مخازن القوت من طعام وشراب ، ولك أن تتأمل نيل مصر وواديه ، كيف تكوَّن من الطمي الذي حملتْه المياه من أعالي الجبال في إفريقيا ، ليُكَوِّن هذه المنطقة الخِصْبة في مصر . ثم يقول سبحانه : { وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً } [ النمل : 61 ] . البحرين : أي العَذْب والمالح لأن الماء : منه العَذْب ، ومنه المالح ، ومن قدرته تعالى وحكمته أنْ يحجز بينهما ، وإنْ كان الماء المالح هو مصدر الماء العَذْب ، لذلك جعل الله تعالى مساحة السطح للماء المالح ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، وكلما اتسع سطح الماء اتسع البَخْر الذي يكوِّن السحاب ، بحيث يسقط المطر الكافي لمعيشة أهل الأرض . وما أجملَ قول الشاعر المادح : @ أهدى لمجلسه الكريم وإنَّما أهدى لَهُ مَا حُزْتَ مَن نَعْمائِهِ كَالبَحْرِ يُمطِرهُ السَّحابُ ومَا لَهُ فَضْلٌ عليْه لأنَّه مِنْ مَائِهِ @@ ولكي تعلم فضل الله علينا في إنزال المطر وتوفير الماء العَذْب ، انظر إلى التكلفة والمشقة التي تعانيها لتقطير عدة سنتميترات من الماء ، في حين أنك لا تدري بعملية التقطير الواسعة التي تسقي البلاد والعباد في كل أنحاء الدنيا . وقد مثَّلنْا لمسألة اتساع رقعة البَحْر بكوب الماء إذا أرقْتَه على الأرض ، فإنه يجفُّ في عدة دقائق ، أمّا لو تركت الماء في الكوب لعدة أيام ، فإنه لا ينقص منه إلا القليل . ومن الماء العَذْب ما سلكه الله تعالى ينابيع في الأرض ليخرجه الإنسان إذا أعوزه الماء على السطح ، أو سلكه ينابيع في الأرض بمعنى أن يسير العَذْب بجوار المالح ، لا يختلط أحدهما بالآخر مع ما عُرِف عن الماء من خاصية الاستطراق . وهذه من عجائب قدرة الله الخالق ، فمِنْ قَعْر البحر المالح تخرج عيون الماء العَذْب لأن لكل منهما طريقاً ومسلكاً وشعيرات يسير فيها بحيث لا يبغي أحدهما على الآخر ، كما قال تعالى : { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19 - 20 ] . وكما أن الماء العَذْب يتسرب إلى باطن الأرض ليكوِّن الآبار والعيون ، فكذلك الماء المالح يتسرب في باطن الأرض ليكوِّن من تفاعلاته الأحجار الكريمة ، كالمرمر ، والمعادن كالحديد والمنجنيز والجرانيت … الخ . وبعد أن ذكر لنا هذه الآيات الخاصة بالأرض جاء بهذا الاستفهام { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ … } [ النمل : 60 ] يعني خلق هذه الأشياء { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61 ] والذين لا يعلمون أعلمناهم ، وقطعنا حُجَّتهم بعدم العلم . ولو نظرنا إلى الأرض لوجدنا فيها آيات أخرى غير أنها مُستقرٌّ وسَكَنٌ ، فالأرض كثيفة ، وفيها غبرة ليست صافية البياض ذلك لأن الله تعالى يريد لها أنْ تستقبل حرارة الشمس وضوءها ليستفيد منها النبات ، ولو أن الأرض كانت شفافة تعكس الضوء والحرارة لما استفاد منها النبات لذلك نجد بعض المشروعات تنمو في الصيف ، وأخرى في الشتاء . ولما أجرَوْا بعض التجارب على النبات ، فوضعوه في مكان مظلم ، ثم جعلوا ثُقْباً في ناحية بحيث يدخل الضوء وجدوا أن النَّبْتة بما أودع الخالق فيها من غريزة تتجه ناحية الضوء لتأخذ حظها من النور والدفء ، فسبحان الذي خلق فسوّى ، والذي قدَّر فهدى . ومن آيات الله في خَلْق الأرض أنْ جعلها على هيئة الحركة والدوران ، لتأخذ كل مناطقها حظها من الحرارة ومن البرودة ، ويتنوع فيها المناخ بين صيف وشتاء ، وخريف وربيع ، إنها أدوار تتطلبها مُقوِّمات الحياة . لذلك تجد علماء النبات يُقسِّمون المناطق الزراعية على الأرض يقولون : هذا حزام القمح مثلاً ، وهذا حزام الموز ، وهذا حزام البطاطس ، فتجد كل حزام منها يصلح لنوع خاص من المزروعات يناسب سكان هذه المنطقة وبيئتها وجوّها . لذلك نجد أن كل نوع من المزروعات في مكانه المناسب لا تصيبه الآفات ، أمّا حين يُنقل إلى مكان غير مكانه ، وبيئة غير بيئته لا بُدَّ أنْ يُصاب . وفي الأرض خاصية أخرى تتعلق بالإنسان تعلقاً مباشراً ، فمن خصائص الأرض وهي من الطين الذي خُلِق منه الإنسان ، فهي في الحقيقة أمه الأولى - فإذا مات لا يسعه إلا أحضان أمه حين يتخلى عنه أقرب الناس إليه ، وألصق الناس به ، عندها تستقبله الأم وتحتويه وتستر عليه كُلَّ ما يسوؤه . ومن خصائص الأرض أنها تمتص فضلات الإنسان والحيوان ومخلَّفاته وتُحوِّلها بقدرة الله إلى مُخصِّب تزدهر به المزروعات ، ويزيد به المحصول ، وفي الريف يحملون رَوَثَ الحيوانات ذا الرائحة الكريهة إلى الحقول ، فإذا به ينبت فيه الوردة الجميلة الذكية التي يتشوَّق الإنسان لرائحتها . إنها عجائب في الخَلْق ، لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، أتذكرون المثل الذي يقول : فلان يعمل من الفسيخ شربات هكذا قدرة الله التي تخلق الأضداد . أَلاَ تروْن أن أفضل الفاكهة نأكلها الآن من الجبل الأصفر بمصر وهي تُرْوى بماء المجاري . وبعد أنْ حدَّثنا الحق - تبارك وتعالى - عن هذه المظاهر العامة التي يحتاجها كل الخلق في السماء والأرض والجبال والمطر … الخ يُحدِّثنا سبحانه عن مسائل خاصة يحتاجها إنسان دون آخر ، وفي وقت دون آخر ، فيقول سبحانه : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ … } .