Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 64-64)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مسألة الخَلْق هذه لا يستطيعون إنكارها ، وقد سألهم الله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ الزخرف : 87 ] . وفي موضع آخر : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ لقمان : 25 ] . لأنهم لا يملَكون إنكارها ، وإنْ أنكروها فالردّ جاهز : على مَنْ خلق أولاً أن يُرينا شيئاً جديداً من خَلْقه . ومعنى { يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ } [ النمل : 64 ] يعني : الخلْق الأول من العدم { ثُمَّ يُعيدُهُ } [ النمل : 64 ] لأن الذي خلقنا من عدم كتب علينا الموت ، وأخبرنا بالغيب أننا سنُبعث يوم القيامة ، وسيعاد هذا الخَلْق مرة أخرى ، فالذين لم يملكوا إنكار الخلق أنكروا البعث ، فقالوا كما حكى القرآن : { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ ق : 1 - 3 ] . فاستبعدوا البعث بعد الموت ، وتحلّل الأجساد في التراب . وهذه القضية خَاضَ فيها الفلاسفة بكلام طويل ، وللردِّ عليهم نقول : أنتم في القوانين الوضعية تجعلون الثواب لمن أحسن ، والعقوبة لمن قصَّر ، وتُجرِّمون بعض الأعمال بعينها ، وتضعون لها العقوبة المناسبة ، وفي القانون : لا عقوبةَ إلا بتجريم ، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ ، ولا نصَّ إلا بإعلام . ولم نَرَ في القانون الوضعي جريمة تُرِكت بلا عقوبة ، فإذا كان البشر يضعون لمجتمعاتهم هذه القوانين التي تنظم حياتهم ، أليس رب البشر أوْلَى بقانون الثواب والعقاب ؟ وإذا كنتَ لا ترضي لنفسك أنْ يفلتَ المجرم من العقاب ، فكيف ترضى ذلك لله ؟ ثم ألا تعلم أن كثيراً من المجرمين يرتكبون جرائمهم في غفلة من القانون ، أو يُعمُّون على العدالة ويهربون من العقاب ، ويُفلِتون من القوانين الوضعية في الدنيا ، ولو تركنا هؤلاء بلا عقاب أيضاً في الآخرة فهم إذن الفائزون ، وسوف نشجع بذلك كل منحرف خارج عن القانون . أما إنْ علم أن له رباً قيوماً عليه ، وإنْ عمَّى على قضاء الأرض فلن يُعمِّي على قضاء السماء ، وإنْ أفلتَ من عقاب الدنيا فلن يُفلِتَ أبداً من عقاب الآخرة - إنْ علم ذلك استقام . لكن ، ما وجه استبعادهم للبعث { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ ق : 3 ] . يقولون : هَبْ إن إنساناً مات ودُفِن وتحلّل جسده إلى عناصر امتصتها الأرض ، ثم غُرِسَت شجرة في هذا المكان وتغذْت على هذه العناصر ، وأكل من ثمارها عدة أشخاص ، وانتقلت جزئيات الميت إلى الثمار ثم إلى من أكل منها ، فحين يُبعث الخَلْق يوم القيامة فلأيِّهما تكون هذه الجزئيات : للأول أم للثاني ؟ إذا بعثتها للأول كانت نقصاً في الثاني ، وإنْ بعثتها للثاني كانت نقصاً في الأول . وهذا الكلام منهم على سبيل أن الشخص مادة فقط ، لكن التشخيصات مادة ومعنى . وهَبْ أن شخصاً بديناً يزن مثلاً مائة كيلو أصابه مرض أهزله حتى قَلَّ وزنه إلى خمسين كيلو مثلاً ، ثم عُولج وتحسنت صحته حتى عاد كحالته الأولى . فهل الجزئيات التي نقصت من وزنه هي نفسها التي دخلتْ فيه بالصحة والتغذية ؟ بالطبع لا ، أتغيرتْ شخصيته بهذا النقص ، أو بهذه الزيادة ؟ لا ، بل هو هو . إذن : للشخص جزئيات مختلفة التكوين ، وله معنى وروح ، ساعةَ تتجمع هذه الأشياء يأتي الشخص المراد . لذلك يقول تعالى رداً على هؤلاء المتفلسفين : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] . فلماذا تستبعدون الإعادة بعد الموت وقد أقررتُم بالخَلْق الأول واعترفتم بأن الله هو الخالق ، وأليست الإعادة من موجود أهونَ من الخَلْق بدايةً من العدم ؟ ثم إن الإعادة تحتاج إلى قدرة على الإبراز وإلى علم . أما العلم ، فالحق - تبارك وتعالى - يقول : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] يعني : يعلم وزنك ، ويعلم جزئياتك ، لا يغيب منها ذرة واحدة . أما القدرة ، فقد آمنتُم بها حين أقررتُم بقدرته تعالى على الخَلْق من عدم ، والإعادة أهون من الإنشاء الأول { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … } [ الروم : 27 ] . وإنْ كان الخالق - عز وجل - لا يُقَال في حقه هيِّن وأهْون ، لكنها بعُرْفكم أنتم ، وبما يُقرِّب المسألة إلى أذهانكم . وفي القدرة أيضاً يقول الحق سبحانه وتعالى : { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ … } [ ق : 15 ] . ثم يقول سبحانه : { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ … } [ النمل : 64 ] . الرزق : كلُّ ما يُنتفع به ، وهو إما من السماء وإما من الأرض ، وإما من التقائهما حين ينزل الماء من السماء ، ويختلط بتربة الأرض فيخرج النبات . { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ … } [ النمل : 64 ] يكرر نفس الاستفهام السابق لتأكيد أنه لا إله إلا الله يأتيكم بهذه النعم . { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 64 ] أي : هاتوا الدليل على وجود إله آخر يقول : أنا الذي بدأتُ الخَلْق ، وأنا الذي أرزق من السماء والأرض ، فإذا لم يأْتِ مَنْ يقول هذا فقد ثبتتْ الدعوة لصاحبها حيث لم يَقُم معارضَ - ودَعْك من مسألة الإعادة هذه ، يكفي أن يدعي الخَلْق لأن القادر على الخَلْق قادر على الإعادة ، فلا يستحيل على الذي خلق من عدم أنْ يُعيد من موجود . لكن ، ما مناسبة الكلام عن الرزق من السماء والأرض بعد مسألة الإعادة ؟ لا بُدَّ أن تكون هناك علاقة بينهما ، فللرزق الذي يأتي عن طريق التقاء ماء السماء بتربة الأرض وهو النبات دورة مثل دورة الإنسان وإعادة كإعادته ، حيث يتغذى الإنسان على نبات الأرض ، ويأخذ منه حاجته من الطاقة والغذاء ، وما تبقى منه يخرج على صورة فضلات تتحلل في الأرض ، حتى ما تبقَّى منها في جسم الإنسان يتحلل بعد موته إلى عناصر الأرض . فالوردة مثلاً بعد نضارتها وطراوتها وجمالها حيث تُقطف تجفّ ويتبخر ماؤها ، وكذلك اللون والرائحة في الأثير الجوي ، وما تبقى منها من مادة جافة تتحلل في التربة ، فإذا ما زرعنا وردة أخرى ، فإنها تتغذى على ما في التربة من عناصر ، وما في الأثير الجوي من لون ورائحة . إذن : فعناصر التكوين في الكون لم تَزِدْ ولم تنقص منذ خلق الله الخَلْق ، ولدورة النبات في الطبيعة بدء ونهاية وإعادة أشبه ما تكون بخَلْق الإنسان ، ثم موته ، ثم إعادته يوم القيامة . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا الدليل على الإعادة بما نراه من دورة النبات ، دليلاً بما نراه على الغيب الذي لا نراه . ثم يقول الحق سبحانه : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ … } .