Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 37-37)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى - عليه السلام - فلم يرد عليهم بالقسوة التي سمعها منهم ولم يتهمهم كما اتهموه ، إنما ردّ بهذا الأسلوب اللَّبِق ، وبهذا الإيحاء : { رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ … } [ القصص : 37 ] ولم يقُلْ : إني جئت بالهدى . ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } [ القصص : 37 ] سواء كنا نحن أم أنتم ، ولم يقُلْ : أنتم الظالمون ، لقد أطلق القضية ، وترك للعقول أنْ تميز . ومعنى { عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ … } [ القصص : 37 ] الدار يعني : الدنيا وعاقبتها تعني : الآخرة . وهذا الأدب النبوي في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة والمعاندين له ، وقد خاطبه ربه : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ العنكبوت : 46 ] . والعلَّة أنك ستُخرجهم من الباطل الذي أحبوه وأَلِفوه إلى الحق الذي يكرهون ، فلا تجمع عليهم شدتين ، لذلك في أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " . ورحم الله شوقي الذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة فقال : النُّصْح ثقيل فلا ترسله جبلاً ، ولا تجعله جدلاً فنُصْحك معناه أنك تقول لمن أمامك : أنت على خطأ وأنا على صواب . فلكي يسمع لك لا بُدَّ أنْ تستميله أولاً إليك ليقبل منك ، ولا تجرح مشاعره فيزداد عناداً ومكابرة ، وما أشبه صاحب الخطأ بالمريض الذي يحتاج لمن يأخذ بيده ، ويأسو مرضه . وقد مثَّلوا لذلك بشخص يغرق ، وصاحبه على الشاطىء يلومه على نزوله البحر ، وهو لا يجيد السباحة ، فقال له : آسِ ثم انصح انقذني أولاً وأدركني ، ثم قُلْ ما شئتَ . وقال آخر : الحقائق مُرَّة ، فاستعيروا لها خِفَّة البيان . أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي الله نوح عليه السلام ، والذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فالأمر يختلف . فالنبي صبر على قومه علَّهم يثوبون إلى رشدهم ، أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الآباء . فما أطولَ صبر نوح على قومه ، وما أعظمَ أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه بالكذب والافتراء : { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [ هود : 35 ] . فنسب الإجرام إلى نفسه ليُسوِّي نفسه بهم لعلَّه يستميل قلوبهم ، لكن ، لما كان في علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا ، ولا فائدة منهم ، ولا من أجيالهم المتعاقبة ، وبعد أنْ قضى نوح في دعوتهم هذا العمر المديد أمره الله أن يدعو عليهم ، حيث لا أملَ في هدايتهم ، فقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 26 - 27 ] . ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول في محاورته مع كفار مكة : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] . سبحان الله ما هذا التواضع ، وهذا الأدب الجم في استمالة القوم ، ينسب الإجرام إلى نفسه وهو رسول الله ، وحينما يتكلم عنهم يقول { تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] فيُسمِّي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملاً ، ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ … } .