Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 50-50)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذا يعني أن الله تعالى لم يطاوعهم إلى ما أرادوا ، فلم يَأْتِهم بكتاب آخر ، لكن كيف كان سيأتيهم هذا الكتاب ؟ يجيب الحق - تبارك وتعالى - على هذا السؤال بقوله تعالى : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . إذن : الكلام عندهم ليس في الكتاب ، إنما فيمن أُنزِل عليه الكتاب ، وهذا معنى : { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ … } [ القصص : 50 ] . ثم يقول سبحانه : { وَمَنْ أَضَلُّ … } [ القصص : 50 ] يعني لا أضل { مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ … } [ القصص : 50 ] أي : اتبع هوى نفسه ، أما إنْ وافق هواه هوى المشرِّع ، فهذا أمر محمود أوضحه رسول الله في الحديث الشريف : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " . فنحن في هذه الحالة لا نتبع الهوى إنما نتبع الشرع لذلك يقول أحد الصالحين الذين أفنوا عمرهم في الطاعة والعبادة : اللهم إنِّي أخشى ألاَّ تثيبني على طاعتي لأنك أمرتنا أنْ نحارب شهوات أنفسنا ، وقد أصبحت أحب الطاعة حتى صارت شهوة عندي . وأضلُّ الضلال أن يتبع الإنسان هواه لأن الأهواء متضاربة في الخَلْق تضارب الغايات ، لذلك المتقابلات في الأحداث موجودة في الكون . وقد عبَّر المتنبي عن هذا التضارب ، فقال : @ أَرَى كُلَّنَا يَبْغى الحياةَ لنفسهِ حَرِيصاً عَليها مُسْتهاماً بها صبَّا فحبُّ الجبانِ النفسَ أوردَهُ التقى وحُبُّ الشجاعِ النفسَ أَوردَهُ الحَربَا @@ فنحن جميعاً نحب الحياة ونحرص عليها ، لكن تختلف وسائلنا ، فالجبان لحبه الحياة يهرب من الحرب ، والشجاع يُلقي بنفسه في معمعتها مع أنه مُحِبٌّ للحياة ، لكنه محب لحياة أخرى أبقى ، هي حياة الشهيد . وآخر يقول : @ كُلُّ مَنْ في الوُجودِ يطلبُ صَيْداً غير أنَّ الشِّباكَ مُختلِفَات @@ فالرجل الذي يتصدق بما معه رغم حاجته إليه ، لكنه رأى مَنْ هو أحوج منه ، وفيه قال تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … } [ الحشر : 9 ] . نقول : هذا آثر الفقير على نفسه ، لكنه من ناحية أخرى يبغي الأجر ويطمع في عَشْرة أمثال ما أنفق ، بل يطمع في الجنة ، إذن : المسألة فيها نفعية ، فالدين عند المحققين أنانية ، لكنها أنانية رفيعة راقية ، ليست أنانية حمقاء ، الدين يرتقي بصاحبه ، ويجعله إيجابياً نافعاً للآخرين ، ولا عليه بعد ذلك أن يطلب النفع لنفسه . فالشرع حين يقول لك : لا تسرق . وحين يأمرك بغضِّ بصرك ، وغير ذلك من أوامر الشرع ، فإنما يُقيِّد حريتك وأنت واحد ، لكن يُقيِّد من أجلك حريات الآخرين جميعاً ، فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك ، فإذا نظرتَ إلى ما أخذ منك باتباعك للمنهج الإلهي فلا تَنْسَ ما أعطاك . لذلك حين " نتأمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج داءات النفوس حينما أتاه شاب من الأعراب الذين آمنوا ، يشتكي إليه ضَعْفه أمام النساء ، وقلة صبره على هذه الشهوة ، حتى قال له : يا رسول الله ائذن لي في الزنا ، ومع ذلك لم ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل علم أنه أمام مريض يحتاج إلى مَنْ يعالجه ، ويستل من نفسه هذه الثورة الجامحة ، خاصة وقد صارح رسول الله بما يعاني فكان صادقاً مع نفسه لم يدلس عليها . لذلك أدناه رسول الله ، وقال له : يا أخا العرب ، أتحب ذلك لأمك ؟ أتحب ذلك لزوجتك ؟ أتحب ذلك لأختك ؟ أتحب ذلك لابنتك ؟ والشاب في كل هذا يقول : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِداك . عندها قال صلى الله عليه وسلم : " كذلك الناس يا أخا العرب لا يحبون ذلك لأمهاتهم ولا لزوجاتهم ولا لأخواتهم ولا لبناتهم " " . فانصرف الشاب وهو يقول : والله ما شيء أبغض إليَّ من الزنا بعدما سمعتُ من رسول الله ، وكلما هَمَّتْ بي شهوة ذكرتُ قول رسول الله في أمي ، وزوجتي ، وأختي ، وابنتي . فالذي يُجرِّيء الناس على المعصية والولوع بها عدم استحضار العقوبة وعدم النظر في العواقب ، وكذلك يزهدون في الطاعة لعدم استحضار الثواب عليها . وسبق أن قلنا لطلاب الجامعة : هَبُوا أن فتى عنده شَرَه جنسي ، فهو شرهٌ منطلق يريد أنْ يقضي شهوته في الحرام ، ونريد له أن يتوب فقلنا له : سنوفر لك كل ما تريد على أنْ تُلقي بنفسك في هذا الفرن بعد أن تُنهي ليلتك كما تحب ، ماذا يصنع ؟ ثم يقول تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ القصص : 50 ] وفي مواضع أخرى : { لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [ المائدة : 108 ] ، { لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] ، وكلها دلَّتْ على أن الله لا يصنع عدم الهداية لأحد إلا بسبق شيء منه ، والمراد بالهداية هنا - أي : هداية الإيمان والتقوى - وإلاَّ فقد هدى الله الجميع هداية الدلالة والإرشاد فلم يأخذ بها هؤلاء فحُرِموا هداية الإيمان . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ … } .