Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 57-57)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذه المقولة { إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ … } [ القصص : 57 ] قالها الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، فقد ذهب إلى سيدنا رسول الله ، وقال : إننا نعلم أنك جئتَ بالحق ، ولكن نخاف إنْ آمنا بك واتبعنا هواك أنْ نُتخطّف من أرضنا ، ولا بُدَّ أنه كان يتكلم بلسان قومه الذين ائتمروا على هذا القول . والخطْف : هو الأخْذ بشدة وسرعة . إذن : فهم يُقرُّون للرسول بأنه جاء بالحق ، وأنه على الهدى ، لكن علة امتناعهم أنْ يتخطفوا ، وكان عليهم أنْ يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول الله على الحق وعلى الهدى ويُتخطَّفوا وبين أنْ يظلُّوا على كفرهم . فقصارى ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله أن يتخطفهم الناس في أموالهم أو في أنفسهم - على فرض أن هذا صحيح - قصارى ما يصيبهم خسارة عَرَض فانٍ من الدنيا لو استمر لك لتمتعتَ به مدة بقائك فيها ، وهذا الخير الذي سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر ، ولا يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الآخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم ، خير يناسب قدرة المنعم سبحانه . أما إنْ ظلُّوا على كفرهم ، فمتاع قليل في الدنيا الفانية ، ولا نصيبَ لهم في الآخرة الباقية . إذن : فأيُّ الطريق أهدى ؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول الله ، هذه واحدة . ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول الله تُتخطَّفوا وتُضطهدوا ؟ لذلك يرد الله عليهم : قُلْ لهم يا محمد : كذبتم ، فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلامكم { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القصص : 57 ] . فقد أنعم الله عليكم وأنتم كافرون مشركون به ، تعبدون الأصنام في جاهلية ، ومكَّن لكم حياة آمنة في رحاب بيته الحرام ، ووفّر لكم رَغَد العيش وأنتم بوادٍ غير ذي زرع حيث يُجْبى إليه الثمرات من كل مكان ، فالذي صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أنْ آمنتم به ، واهتديتم إلى الحق ؟ كيف يكون منكم هذا القياس ؟ ومعنى : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ … } [ القصص : 57 ] استفهام للتقرير ، فاسألهم وسوف يعترفون هم أن الله مكَّن لهم حرماً آمناً يُجبَى إليه ثمرات كل شيء ، فالحق سبحانه يريد أنْ يثبت هذه القضية بإقرارهم بها . ومعنى { نُمَكِّن لَّهُمْ … } [ القصص : 57 ] نجعلهم مكينين فيه ، كما في قوله تعالى : { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ … } [ يوسف : 21 ] والتمكين يدل على الثبات لأن ظرف المكان ثابت على خلاف ظرف الزمان . وقال : { حَرَماً آمِناً … } [ القصص : 57 ] مع أن الأمن لمن في المكان ، لكن أراد سبحانه أن يُؤمِّن نفس المكان ، فيكون كل ما فيه آمناً ، حتى القاتل لا يُقتصّ منه في الحرم ، والحيوان لا يُثار فيه ولا يُصَاد ، والنبات لا يُعضد حتى الحجر في هذا المكان آمن ، ألاَ تراهم يرجمون حجراً في رمي الجمرات في حين يُكرِّمون الحجر الأسود ويُقبّلونه . وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم - عليه السلام - نجد أن له خطة ، وأن الحق سبحانه يُعدُّه ليكون حرماً آمناً ، فلما جاءه إبراهيم قال : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ … } [ إبراهيم : 37 ] . هذا يعني أن المكان ليس به من مقومات الحياة إلا الهواء ، لأن نفي الزرع يعني عدم وجود الماء لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر ، فلما علمتْ أنه اختيار الله لهم قالت : إذن لن يضيعنا . وقد رأتْ بنفسها أن الله لم يُضيِّعهم ، فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعتْ في طلبه بين الصفا والمروة سبعة أشواط على قَدْر ما أطاقتْ لم تجد الماء في سَعْيها ، ولو أنها وجدته لكان سعيها سبباً إنما أراد الله أنْ يُصدِّقها في كلمتها ، وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يُضيّعهم من غير أسباب لتتأكد أن كلمتها حق ، ثم شاءتْ قدرة الله أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد ، وهو يضرب بقدمه الأرض ، ويبكي من شدة الجوع والعطش ، وانبجستْ زمزم . ولما أسكن إبراهيم أهله في هذا المكان المقْفر أراده لهم سكناً دائماً ، لا مجرد استراحة من عناء السفر لذلك قال : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ … } [ إبراهيم : 37 ] . وكأنه - عليه السلام - يريد أن يطمئن على إقامة أهله في هذا المكان ، وأن يكون البيت مُصلَّى لله ، لا تنقطع فيه الصلاة ، وهذا هو الفرق بين بيت الله باختيار الله وبيت الله باختيار عباد الله . فالبيت الذي نبنيه لله تعالى قد يُغلق حتى في أوقات الفروض ، أما بيت الله الذي اتخذه لنفسه فلا يخلو من الطواف والصلاة في أيِّ وقت من ليل أو نهار ، ولا ينقطع منه الطواف إلا لصلاة مكتوبة ، فإذا قُضيتْ الصلاة رأيتهم يُهرعون إلى الطواف . وقد رأيت الحرم في إحدى السنوات وقد دهمه سيل جارف حتى ملأ ساحته ، ودخل الماء الكعبة وغطَّى الحجر الأسود ، فكان الناس يطوفون سباحة ، ورأينا أناساً يغطسون عند الحجر ليُقبِّلوه ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أن يظلَّ الطواف حول بيته لا ينقطع على أيِّ حال . كذلك نفهم من قوله تعالى : { تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ … } [ إبراهيم : 37 ] . من الفعل هَوَى يهوي ، يعني : سقط لأن الذي يسقط لا إرادةَ له في عدم السقوط ، كذلك مَنْ يأتي بيت الله أو يجلب إليه الخيرات يجد دافعاً يدفعه كأنه لا إرادة له . كما نفهم منها معنى آخر ، فكل تكاليف الحق سبحانه ربما تكاسل الناس في أدائها ، فمنّا مَنْ لا يصلي أو لا يُزكِّي . إلا الحج حيث قال الله فيه : { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً … } [ الحج : 27 ] فمجرد أن تؤذن يأتوك . لذلك نجد من غير القادرين على نفقات الحج من يجوع ويُمسك على أهله ليوفِّر تكاليف الحج ، فهو - إذن - الفريضة الوحيدة التي يتهافت عليها مَنْ لم تطلب منه . ونلحظ أن إبراهيم - عليه السلام - دعا بالأمن للحرم مرتين : مرة في قوله : { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً … } [ البقرة : 126 ] يعني : اجعل هذا المكان بلداً آمناً ، كأيِّ بلد آمن لا تُقام إلا في مكان يُؤَمِّنون فيه كل مُقوِّمات الحياة ، فأيّ بلد لا تُبنى حتى من الكافر إلا إذا كان آمناً فيها ، فالطلب الأول أنْ يتحول هذا المكان الخالي إلى بلد آمن ، كما يأمن كل بلد حين ينشأ ، وهذا أمن عام . ثم يدعو مرة أخرى { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً … } [ إبراهيم : 35 ] بعد أن أصبحتْ مكة بلداً آمناً يطلب لها مزيداً من الأمن ، وهذا أمن خاص ، حيث جعلها بلداً حراماً ، يأمن فيها الإنسان والحيوان والنبات ، بل والجماد . وقد وقف البعض عند قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً … } [ آل عمران : 97 ] . وقالوا : أين هذا الأمن ، وقد حدث في الحرم الاعتداء والقتل وترويع الآمنين ، كما حدث في أيام القرامطة لما دخلوا الحرم ، وقتلوا الناس فيه ، وأخذوا الحجر ، وفي العصر الحديث نعرف حكاية جهيمان ، وما حدث فيها من قَتْل في الحرم . وهذه الآية : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً … } [ آل عمران : 97 ] جملة خبرية غرضها الأمر والحثّ ، كأنه تعالى قال : أمِّنوا من دخل الحرم . وهذه ليست قضية كونية ، إنما قضية شرعية ، وفرْق بين القضيتين : الكونية لا بُدَّ أن تحدث ، أما الشرعية فأمر ينفذه البعض ، ويخرج عليه البعض ، فمَنْ أطاع الأمر الشرعي لله وأراد أنْ يجعل أمر الله صادقاً يُؤمِّن أهل الحرم ، ومَنْ أراد أنْ يكذِّب ربه يهيج الناس ويروعهم فيه . ومن الآيات التي كثيراً ما يُسأل عنها في هذا الصدد قوله تعالى : { ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ … } [ النور : 26 ] يقولون : كثيراً ما يتزوج خبيث من طيبة ، أو طيبة من خبيث ، فالواقع لا يتفق مع الآية . نقول أيضاً هنا : هذه قضية شرعية تحمل أمراً قد يُطاع وقد يُعْصَى ، وليست قضية كونية لا بُدَّ أنْ تأتي كما أخبر الله تعالى بها ، ولا يتخلّف مدلولها . فالمعنى في الآية : إن زوجتُم فزوِّجوا الخبيث للخبيثة ، والطيب للطيبة ليتحقق التكافؤ بين الزوجين ويحدث بينهما الوفاق ، حتى إنْ عيَّر الخبيث زوجته كانت مثله تستطيع أنْ تردّ عليه ، لا بُدَّ من وجود التكافؤ حتى في القباحة ، وإلا فكيف تفعل الطيبة مع الخبيث ، أو الخبيث مع الطيبة ؟ إذن : فالآية وأمثالها قضية شرعية في صيغة الخبر ، وإنْ كانت تعني الأمر ، كما تقول عن الميت : رحمه الله بصيغة الماضي ، وأنت لا تدري رحمه الله ، أو لم يرحمه ، إذن : لا بُدَّ أن المعنى دعاء : فليرحمه الله ، قلتها أنت بصيغة الماضي ، رجاء أن تكون له الرحمة . نعود إلى قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً … } [ القصص : 57 ] ونلحظ هذا التمكين وهذا الأمن من قصة الفيل ، حيث جاء أبرهة ليهدم الكعبة ، ويتقدّم الجيش فيل ضخم يقال له محمود ، فلما قالوا في أذنه أبرُكْ محمود وارجع راشداً يعني : انفد بجلدك فإنك ببلد الله الحرام فبرك الفيل واستجاب . ثم جاءت معركة الطير الأبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول . هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش سكان حرمه لتظل الكعبة مسكونة بهم ، وما داموا هم سكان الحرم والناس تأتيهم من كل الأنحاء للحج كل عام ، فسوف يظل لهم الأمن بين القبائل ، ولا يجرؤ أحد على الأعتداء عليهم ، أو التعرُّض لقوافلهم في رحلة الشتاء والصيف ، وأيُّ أمن ، وأيُّ مهابة بعد هذا ؟ ومع الحجيج يُجلب الطعام وتُجلب الأرزاق ، وصدق الله العظيم : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 1 - 4 ] . وكيف بعد هذا الأمن والأمان يخاف مَنْ يؤمن بمحمد أنْ يُتخطَّف من أرضه ؟ إنها مقولة لا مدلولَ لها .