Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 58-58)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كلمة { وَكَمْ } [ القصص : 58 ] كم هنا خبرية تفيد الكثرة ، كأنك تركتَ الجواب ليدل بنفسه على الكثرة ، كما تقول لمن ينكر جميلك ، ولا تريد أنْ تُعدد أياديك عليه : كم أحسنتُ إليك ، يعني : أنا لن أُعدِّد ، وسوف أرضى بما تقوله أنت لأنك واثق أن الإجابة سوف تكون في صالحك ، وعندها لا يملك إلا أن يقول : نعم هي كثيرة . فكم هنا تعني الكثرة ، وينطق بها المخاطب لتكون حجة عليه . ومعنى : { مِن قَرْيَةٍ } [ القصص : 58 ] من للعموم أي : من بداية ما يُقال له قرية { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] البطر : أن تنسى شُكْر المُنعِم على نِعمه ، أي : أنه سبحانه لم يرد ذكره على بالك وأنت تتقلَّبَ في نِعمه ، أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل . ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة ، أو يستقلها ويراها أقلّ من مستواه ، كالولد الذي تأتي له أمه مثلاً بطبق العدس فيتبرَّم به ، وربما لا يأكل ، فتقول الأم كما نقول في العامية : أنت بتتبطر على نعمة ربنا ؟ كلمة في لغتنا العامية لكن لها أصل في الفصحى . إذن : من البطر أنْ تتجبَّر ، أو تتكبر ، أو تتعالى على نعمة الله ، فلا ترضى بها ، وتطلب أعلى منها . ومعنى { مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] أي : أسباب معيشتها { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ } [ القصص : 58 ] فما داموا قد بطروا نعمة الله فلا بُدَّ أن يسلبها من أيديهم ، وإنْ سُلبتْ نِعم الله من بلد هلكوا ، أو رحلوا عنها { إِلاَّ قَلِيلاً } [ القصص : 58 ] هم الذين يقيمون بعد هلاك ديارهم . { وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ } [ القصص : 58 ] نرثهم لأنهم لم يتركوا مَنْ يرثهم ، وإذا تُرِك مكان بلا خليفة يرثه آل ميراثه إلى الله تعالى . وفي آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع ، يقول تعالى : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ … } [ النحل : 112 ] يعني : بطرت بنعمه تعالى { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ … } [ النحل : 112 ] . ومعنى الكفر بالله : سَتْر وجود الله ، والسَّتْر يقتضي مستوراً ، فكأن الأصل أن الله تعالى موجود ، لكن الكافر يستر هذا الوجود ، وهكذا يكون الكفر نفسه دليلاً على الإيمان ، فالإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه . ومثال ذلك قولنا : إن الباطل جُنْدي من جنود الحق ، فحين يستشري الباطل يذوق الناس مرارته ، ويكتوون بناره ، فيعودون إلى الحق وإلى الصواب ، ويطلبون فيه المخرج حين تعضُّهم الأحداث . وكذلك نقول بنفس المنطق : الألم أول جنود الشفاء لذلك نجد أن أخطر الأمراض هو المرض الذي يتلصص على المريض دون أنْ يُشعره بأيِّ ألم ، فلا يدري به إلا وقد استفحل أمره ، وتفاقم خطره وعزَّ علاجه ، لذلك نسميه - والعياذ بالله - المرض الخبيث . ففي قوله تعالى : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ … } [ النحل : 112 ] . دليل على وجود النعم ، ومع ذلك كفروا بها أي : ستروها ، إما بعدم البحث في أسبابها ، والتكاسل عن استخراجها ، أو ستروها عن المستحق لها وضنُّوا بها على العاجز الذي لا يستطيع الكسب لذلك يسلبهم الله هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم . وهناك أشياء لو ظلت موجودة لأعطتْ رتابة ، ربما فهموا منها أن هذه الأشياء إنما تأتيهم تلقائياً بطبيعة الأشياء ، وحين يسلب الله منهم نعمه ويقطع هذه الرتابة ، فإنما ليفهموا أن الرتابة في التكليفات تُضعِف الحكمة من التكليف ، كيف ؟ نقول : الحق - تبارك وتعالى - حرَّم علينا أشياء وأحلَّ لنا أشياء ، فمثلاً حرَّم الله علينا الخمر حتى أصبحنا لا نشربها ولا حتى تخطر ببالنا ، فأصبحت عادة رتيبة عندنا ، والله تعالى يريد أنْ يُديم على الإنسان تكليفَ العبادة ، حتى لا يعتادها فيفعلها بالعادة ، فيكسر هذه العادة مثلاً في صوم رمضان . ويُحرِّم عليك ما كان حلالاً لك طوال العام ، وقد اعتدْتَ عليه ، فيأتي رمضان وتكليف الصيام ليُحرِّم عليك الطعام الذي كنت تأكله بالأمس ، ذلك لتظل حرارة العبادة موجودةً تُشوِّق العبد إليها ، وتُعوِّده الانضباط في أداء التكاليف . ثم يذكر العقاب على الكفر بنعمة الله { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ … } [ النحل : 112 ] والجوع له مظهران : أنْ تطلبه البطن في أول الأمر ، فإنْ زاد الجوع ضعُفَتْ الجوارح ، وتألمتْ الأعضاء كلها ، وذاقتْ ألم الجوع ، والله تعالى يريد أنْ يُرينا إحاطة هذا الألم ، فشبَّهه باللباس الذي يحيط بالجسم كله ، ويلفّه من كل نواحيه . وهذه سُنَّة الله في القُرى الظالمة ، كما قال سبحانه : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ … } .