Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 63-63)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والكلام هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغَووْهم ، ومعنى { حَقَّ عَلَيْهِمُ … } [ القصص : 63 ] أي : ثبت ووقع ، فهو أمر لا محالة منه ، ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ } [ الصافات : 31 ] . وقال الحق سبحانه وتعالى : { وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } [ النمل : 85 ] . لكن ، ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحَقَّ عليهم ؟ القول : أن كلَّ واحد له مكان عندي في الجنة على فَرْض أنكم جميعاً آمنتم ، وكل واحد له مكان في النار على فَرْض أنكم جميعاً كفرتم . وماذا قالوا ؟ قالوا : { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا … } [ القصص : 63 ] سبحان الله الآن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى ، كما قال تعالى في شأن فرعون : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 91 ] . الآن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الاختيار ، ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم ، فيدُكَ التي كنت تبطش بها ، ورِجْلك التي كنت تسعى بها ولسانك … كلها خرجت عن إرادتك وطَوْع أمرك لأنها الآن طَوْعٌ لأمر الله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . ومعنى { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ … } [ القصص : 63 ] أي : المشركين { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا … } [ القصص : 63 ] أي : لنكون سواء ، هذه عِلَّة غوايتهم ، أن يكونوا في الخُسْران سواء ، وإلا فأهل الباطل يسعون جاهدين للإيقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم ، وليكونوا أمثالهم . وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزماً مستقيماً ، لا يشاركه فساده وانحرافه ، فيعزّ عليه أنْ يكون في الهاوية وحده ، ولماذا يمتاز عنه الآخرون ؟ واقرأ قوله تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً … } [ النساء : 89 ] . ألا ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم ، ليُزهدوهم في الخير والصلاح ، وليغروهم بما هم فيه ، حتى أصبح الإنسان الملتزم بدينه وشرع ربه لا يسلَم من ألسنتهم ، كما يقول تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29 - 30 ] . وليت الأمر ينتهي عند الغَمْز واللمز ، إنما يتمادى هؤلاء ، فيجعلون من سخريتهم بأهل الإيمان والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] يعني : فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة ، مما يدلّ على أنهم جميعاً تُسعِدهم هذه المسألة وتُرضي شيئاً في نفوسهم المريضة الحاقدة . لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم ، وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلاء ، لذلك يتولَّى ربه - عز وجل - الدفاع عنه يقول له : لا تحزن فسوف نقتصُّ لك ، ونسخر منهم ، ونجعلهم أضحوكة في يوم بَاقٍ لا ينتهي فيه عذابهم : { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 34 - 36 ] . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يسترضي عباده المؤمنين : أيعجبكم ما آلوا إليه ؟ أقَدرْنا أن نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم ؟ نعم يا رب ، فسخرية الكفار من أهل الإيمان في دار الباطل الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية ، وهي سخرية دائمة لا نهاية لها . إذن : { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا … } [ القصص : 63 ] يعني : حتى نكون سواء ، لا يكون أحدنا أحسن من الآخر ، ومن هذا المنطلق أغوى إبليسُ آدمَ ، لأنه لما طغى وطُرد من رحمة الله ، ومن الصفائية التي كان ينعمَ بها مع الملائكة . أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير ، فقد حَزَّ في نفسه أن يلاقي هذا المصير وحده ، في حين ينعَم آدم وذريته برحمة الله ورضوانه . لذلك نجد إبليس - لعنه الله - لا يكتفي بأن تُغوي ذريته ذريةَ آدم ، إنما يطلب من الله أنْ يُنظِره إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية ، فهو المعلم الكبير ، وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في الغواية قد لا ترضيه لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] . والبعض يفهم قوله تعالى : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 14 - 15 ] أن الله تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب ، لكن { إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 15 ] ليست إجابةً ، إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب ، فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى لأنك من المنظرين فعلاً ، لماذا ؟ قالوا : لأن الله تعالى يريد أنْ يظلَّ إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من الجنة باقياً أمام ذريته ليُذكِّرهم دائماً : هذا الذي أغوى أباكم آدم . وقولهم : { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا … } [ القصص : 63 ] لنا وقفة مع { هَـٰؤُلاۤءِ … } [ القصص : 63 ] وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه ، تقول : هؤلاء الرجال ، وهؤلاء النساء ، وهي عبارة عن : الهاء للتنبيه ، وأولاء اسم إشارة ، وكذلك في هذا ، هذه ، هذان ، هاتان ، فالهاء فيها للتنبيه لتنبه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه ، ويهتم بما تقول ، فلا يفوته من كلامك شيء . هذا حين تخاطب مثلك لأنه يحتاج إلى تنبيه ، أما إذا خاطبتَ ربك - عز وجل - فمن سوء الأدب أنْ تستخدم في خطابه أداة التنبيه ، كما استخدمها المشركون ، فما داموا قد قالوا { رَبَّنَا … } [ القصص : 63 ] فليس من الأدب أن يقولوا { هَـٰؤُلاۤءِ … } [ القصص : 63 ] أيُنبِّهون الله عز وجل ؟ لذلك نلحظ هذا الأدب في خطاب نبي الله موسى - عليه السلام - فيما حكاه عنه القرآن : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } [ طه : 84 ] فقال أولاء بدون هاء التنبيه تأدُّباً مع ربه عَزَّ وجَلَّ . ونلحظ أنك لا تجد خطاباً من الكفار إلا باستخدام هؤلاء : { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا … } [ الأعراف : 38 ] { رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا … } [ النحل : 86 ] أما المؤمن فلا يليق به أبداً أن يُنبِّه الله تعالى ، بل ولا تصدر من مؤمن لمؤمن لأنه دائماً منتبه . ثم يقولون : { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] الآن ينكُصون كما قالوا من قبل { رَبَّنَا … } [ القصص : 63 ] يقولون الآن { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ … } [ القصص : 63 ] لكن هيهات تنفعهم هذه البراءة ، لقد انتهى وقتها ، ومضى زمن التكليف والاختيار ، والآن وقت الحساب وسَلْب الإرادة والاختيار ، وما أشبههم بفرعون حين قال الله له : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 91 ] . وقولهم : { مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] يقول الشركاء : ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها على عبادتنا ، ولا قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها ، إنما كنتم في انتظار إشارة منا ، كما قال كبيرهم إبليس : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ … } [ إبراهيم : 22 ] . إذن : فهؤلاء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم لأن الشركاء كانوا أصناماً أو غيرها ، وليس لهم منهج يتكلَّمون به ، ويدْعُون الناس إلى عبادتهم به ، وإلا فماذا قالت الأصنام أو الشمس أو النجوم لمن عبدها ؟ بِمَ أمرتهم ، وعمَّ نهتْهم ؟ إذن : هو إله بلا منهج وبلا تكاليف ، وهذا ما يريده المشركون لأن الذي يُتعب الناس في قضية الإيمان بالألوهية ما تقتضيه من تكاليف ، وما تفرضه من أمرأو نهي يحول بين النفس البشرية وما تشتهي ، ويُوقفها عند حدود لا تتعداها . إذن : { مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] بل يعبدون ذواتهم ، ويعبدون شهواتهم ورغباتهم ، وما أسهل أن يعبد الإنسان آلهة لا تلزمه بشيء ، فيسير في حياته على هواه ، وهذه هي التي روجَتْ لعبادة هذه الآلهة . لذلك فإن الحق سبحانه يريد أنْ يلزم الإنسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الأولى لشهواته ، وإلا فلو أن المسألة كلها وسوسة شيطان ، فمَن أغوى إبليس بالعصيان أولاً على حَدِّ قَوْل الشاعر : @ إبليسُ لما عَصى مَنْ كان وسْوَسَهُ ؟ @@ إذن : فهي كبرياء النفس ورغباتها ، وليس للشيطان إلا أنْ يُلوِّح لها فتقع لذلك جاء في الحديث الشريف : " إذا أقبل رمضان فُتحت أبواب الجنة ، وغُلِّقت أبواب النار ، وسُلْسلت الشياطين " . وما دامت الشياطين سُلسلت ، فليس لها حركة مع الإنس لأن الله تعالى يعلم منّا أنَّا نُعلِّق كل معاصينا على الشيطان ، فكأنه سبحانه يقول : ها هي الشياطين صُفِّدت وسُلْسِلت ، فمَنْ أغواكم وزيَّن لكم حال سَلْسلتها ؟ إذن : هي نفسك التي تَوسوس لك لذلك نقول : كل معصية تقع في رمضان ليس للشيطان فيها نصيب ، إنما هي شهوة النفس . وسبق أنْ بيَّنا كيف نُفرِّق بين المعصية متى تكون من الشيطان ؟ ومتى تكون شهوة نفس ؟ إنْ كانت المعصية تُوقفك عندها لا تتزحزح عنها إلى غيرها ، فاعلم أنها من نفسك ، أما إنْ عزَّتْ عليك معصية ففكَّرْتَ في غيرها ، فهي من الشيطان لأنه والعياذ بالله يريدك عاصياً على أي وجه ، وبأيِّ طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أنْ يُوقِعك فيها ، على خلاف شهوة النفس ، فهي تريد شيئاً بذاته لا تريد غيره . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ … } .